التاريخ: 7 تموز/يوليو
المكان: أمام المحكمة المركزية، القدس المحتلّة
صدر عن محكمة الاحتلال المركزية في القدس قرار يبرئ عنصرًا في شرطة الاحتلال من جريمة قتل الشاب الفلسطيني إياد الحلاق، والذي سلبه الاحتلال حياته في إعدام ميداني عام 2020. كان إياد من ذوي الاحتياجات الخاصّة، ولم يشكّل خطرًا على أحد. خارج مبنى المحكمة، وقف إيتمار بن غفير مع عصبة من المستوطنين، للاحتفال بالقرار والتشفي بالأمّ ومصابها المضاعف، وتهجموا عليها لفظيًا ونعتوها بالإرهاب، ضمن عمليّة تضليل ممنهجة شعواء، للتحريض على المزيد من القتل ضد الفلسطينيين والوعد بالحصانة من أي عقاب، مع قلبٍ للأدوار بين الضحية والجلّاد.
التاريخ: 11 نيسان/أبريل 2018
المكان: أمام المحكمة العليا في بلغراد
تقف امرأة اجتمعت عليها فجائع كبرى، قتل زوجها وابنها وأخوتها جميعًا قرب سربرنيتسا في تموز/يوليو 1995. ومثل والدة الحلّاق، تقف الأمّ أمام المحكمة وأمامها أحد القتلة وقد صار سياسيًا كبيرًا، على رأس حزب قوميّ متطرّف في صربيا، وكان على وشك بدء مؤتمر صحفي، يدافع فيه عن عدد من قوات الشرطة من صرب البوسنة، متهمين بالتورط في قتل 1،300 من البوشناق. صرخت المرأة في وجهه وقالت: "أعيدوا إلى ابني وعائلتي، وخذوا كل شيء". أما الردّ الذي أتاها من الرجل، وهو فويسلاف شيشلي، المدان رسميًا اليوم من العدل الدولية في لاهاي، فهو إنكاره الفاجر للجريمة، مع ادعاء فبركتها، ثم توجّه إليها بفظاظة وحشيّة بجثته التي يناهز طولها المترين وقال: "ماذا عليّ أن أفعل أنا؟ ربما قتل ابنك، وربما لم يقتل، أنا لا أعرفه أصلًا.. ثم من قال إن سبعة أو ثمانية آلاف قتلوا، كل من قتلوا لا يتجاوز عددهم 1200 شخص.. هذه القصة لم تعد تنطلي على أحد".
إنكار المذبحة
من أقبح المتلازمات اللفظية، قولهم "إنكار المذبحة". والمتلازمات اللفظية هي كلمات ارتبطت معًا على نحو اعتباطي بسبب التداول المستمرّ لها، فيصبح لفظ كلمة مرتبطًا بتذكّر أختها وجذبها إليها. في التاريخ القريب والحاضر الراهن أمثلة عديدة تبرهن على أنه لا تعدم أية مذبحة من ينكرها، أو من يمجّد مرتكبها، أو من يستكثر التعاطف مع ضحاياها وذويهم وتخليد ذكراهم. سوريا الأسد مختبر مفتوح اليوم لهذه الظاهرة. لكنّ الأدهى، في ذكرى المذابح والإبادات المستقرّة في وجدان العالم، هو أننا بتنا نصطدم أكثر لا بأصوات من ينكرها وحسب، بل بدعوات تكرارها والندم على عدم إتمامها والتقصير عن الإتيان على آخر من في المجموعة التي كان يلزمها الإبادة الكاملة لتعيش المجموعة الأخرى كما تريد، أو كما تخيّل زعماؤهم لهم شكل المجتمع الأمثل، المفيد لهم.
قبل أيّام، وفي الذكرى السنوية لمجزرة سربرنيتسا في البوسنة التي بدأت في 11 تموز/يوليو 1995، قرّرت طالبتان جامعيتان من صرب البوسنة استذكار "مجد" الجنرال الصربي راتكو ملاديتش والاعتزاز به لدوره في جرائم الإبادة التي وقعت ضدّ المسلمين في البوسنة. ثارت بعض البلبلة المحليّة، لكن سرعان ما أتى التأييد والمساندة للطالبتين من جمهورية صربيا المجاورة، فتلقتا بحفاوة بالغة دعوة للدراسة على حساب الدولة في أكاديمية الأمن القومي في العاصمة بلغراد، مع التكفّل بكافة نفقات الإقامة فيها حتى تخرجهما.
في البوسنة، لم يبد ما حصل مفاجئًا ولا غريبًا. يخبرني أحد الأصدقاء أن هذه النعرة لا تخبو ولا تنقطع، بل ويعلو صداها في كل عام، بالتزامن مع الذكرى السنوية لعمليات التطهير العرقي التي وقعت على مسلمي البوسنة تحت أنظار العالم وعلى مرمى رصاصة من مخيمات الأمم المتحدة وقوات الحماية التابعة لها. فصربيا ومن في حكمها من صرب البوسنة يتبنّون بكل ثبات واتّساق سرديّة إنكاريّة تصر على وضع الإبادة ضمن إطار مؤامرة ما، وتجيّش المؤسسات الأكاديمية والدينية والإعلامية لفبركة تاريخ بديل يضع الصرب في مقام الأبطال الذين شكّلوا خطّ دفاع عن أوروبا المسيحية، وأن المقتلة التي وقعت على مسلمي البوسنة ليست في مجملها إلا "جرائم مفبركة"، مع أنها جرائم حرب كبرى بات هذا وصفها المعلوم والمتفق عليه اليوم، تقريبًا. هذا الخطاب الرسمي وجد له أرضية شعبية خصبة في صربيا وبين صرب البوسنة، بين جموع المؤمنين بأيديولوجيات "صربيا العظمى"، التي تعبّر اليوم عن حالة قومية متطرّفة وسائدة، تشدّد على أن ما حصل في البوسنة كان محض محاولة لتصحيح حركة التاريخ وحماية الذات الصربية من "الخطر الأخضر"، وهي حالة تجد لها سندًا معتبرًا في زمن صعود الشعبويات المتطرّفة في القارة الأوروبية،مع مؤازرة فجّة من روسيا، التي ترفض الاعتراف حتى اليوم بالإبادة ضد مسلمي البوسنة، وتدعم جهارًا الصرب الانفصاليين فيها.
تعاظم حضور هذه السردية النكيرة، المنكرة للإبادة في البوسنة، خلال العقد الماضي، مع تزايد تأثير منصات التواصل الاجتماعي، من تويتر حتى تيك توك، حيث تم رصد مئات الحملات الممنهجة من حسابات حقيقية وأخرى وهمية وآلية لترويج دعايات مفبركة تقوّض من حرمة ما حصل في الوجدان العام وتنزع شرعيّته وتحاول تشويه صورة الضحايا، وسلبهم حقّهم بالحزن والتذكّر، ونفي الحاجة للحسرة على ما جرى لهم، والسخرية من ذلك كلّه عبر استعادة ما يرونه مجدًا ماضيًا يتجسّد بأسماء بائدة لزعماء سفاحين، مثل ملاديتش وميلوشفيتش وكاراديتش وغيرهم. ومع هذا الزخم الدعائي المنظّم، تنشأ سرديّة بديلة تنكر الإبادة وتحتفي بها في آن معًا، ويكون الضحايا المسلمون البوشناق وفقها "متطرفين" أو حتى "جهاديين"، كان يجدر التخلص منهم، وذلك اتساقًا مع خطاب يميني هوياتيّ متطرّف ما يزال يتصاعد زخمه في أوروبا منذ سنوات، يشيطن كل ما يمتّ للمسلمين واللاجئين بصلة.
الإبادة لا تتمّ وإذا بدأت لا تنتهي
ثمة تداخل معروف بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وخلاف عميق في الدوائر الأكاديمية حول تعريفات كلّ من المصطلحين منذ أن اعتمدا رسميًا منذ العام 1948 (والعام 1993). لكنّ السمة التي تبدو جوهرية عند النظر في عمليات الإبادة والتطهير العرقي، هي أنها عمليات لا تنتهي، وأن الإبادة (غير المنتهية) تجرّ أخرى لإتمامها بحسب ما يتخيّل من يشجّع عليها ويحشد لها. في العام 2018، كتب زعيم متطرّف من صرب البوسنة تغريدة دالّة بشكل صارخ على ذلك جاء فيها: "أفكر أن أقول للبوشناق (مسلمي البوسنة) أنكم لو كنتم تحبون الإبادة التي تعرضتم إليها إلى هذا الحد، فانتظروا حتى تحين الفرصة المقبلة".
يصف الباحث الأمريكي المعروف غريغوري ستانتون، المختص في دراسات الإبادة، عشرة مراحل تقع فيها هذه الجريمة، تبدأ بالتصنيف (نحن وهم) وتمرّ بعمليات الممايزة ونزع الأنسنة عن أولئك الـ "هم"، وحشرنتهم أو حيونتهم أو مقارنتهم بالأمراض السارية التي يجب تطهير الأرض منها، ثم التنظيم والاستقطاب والحشد والتحضير وصولًا إلى مرحلة التنفيذ. لكن ستانتون يذكّرنا بمرحلة لاحقة ضرورية، متلازمة مع الإبادة، ألا وهي إنكارها، حيث يقول إنها دومًا تتبع عملية الإبادة. أما في الحالة البوسنيّة، فقد تعاظم خطاب تمجيد الإبادة، حتى اقترح مفكرون وباحثون من البوسنة إضافة مرحلة إضافية، أطلقوا عليها اسم "تمجيد الإبادة"، أو "الانتصاروية" (Triumphalism)، كما وضعها الباحث النمساوي من أصول بوسنة، حارث خليلوفيتش، وهي مرحلة وصلت أوجًا جديدًا لها في الأسابيع الماضية، إذ تظهر في خطابات السياسيين أولًا قبل أن تنعكس في مخيال العامّة وعلى سلوكهم، من استمراء لتمجيد القتلة وأسطرتهم، مثلما فعلت الطالبتان من صرب البوسنة، قبل انتقالهما إلى حياة جديدة "نقيّة" في صربيا، يتاح لهما فيها التعبير عن هذه النعرة المريضة، بلا أي اعتراض، بل وبمكافأة وتشجيع رسميين.
"كنت هناك".. كواليس أسوأ جريمة حرب في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية
في هذا السياق، شاهدت حلقة "كنت هناك"، التي عرضت أمس على التلفزيون العربي، بمناسبة الذكرى الثامنة والعشرين لمذبحة سربرنيتسا. يبدأ البرنامج بشهادة أحد الناجين، يقول فيها إن القوات الصربية ما دخلوا منطقة إلا وأفسدوها كلّها، وارتكبوا فيها المجازر وما يرافقها من أعمال اغتصاب ونهب وتمثيل بالجثث. ثم تتوالى الشهادات في البرنامج، الذي يعرض فصلًا جديدًا من مأساة ليست منتهية بالطبع بالنسبة لذوي الضحايا ممن فقدوا أحباءهم وأهليهم، ولكنها ليست منتهية أيضًا في الذاكرة الجمعيّة لمن يقطنون تلك الأرض ومن حولها، حيث ما يزال الجاني يلاحق الضحايا محاولًا إبادة ذكراهم والعمل على تشويهها، أو ينتظر "فرصة ذهبية" أخرى لإبادة من تبقى من مسلمي البوسنة.
تذكر إحدى الأمهات في البرنامج كيف ان ابنها تعرّض للقتل على أيدي الجيران، الذين ظنّ لوهلةٍ أنّهم لن يتخلّوا عنهم كرمًا للعشرة والجيرة الطويلة. مثل هذه القصص يتكرّر تقريبًا في كل سردٍ وثائقي عن مذبحة سربرنيتسا، حيث يتذكر ذوو الضحايا كيف تحوّل الجيران إلى قتلة بمجرّد أن بدأت المذبحة واستعرّت. في سلسلة بودكاست بعنوان "مذابح غير محكيّة" (Untold Killing) قصّة مماثلة ترويها إحدى الضحايا، تروي فيها كيف أن الجيران كانوا يتعاملون ببرودٍ شديد مع مسألة التخلّص منهم، وكأنها تحصيل حاصل، وكيف أن أفران البيوت لم تتوقف عن العمل في الأيام السابقة للمذبحة لتحضير الخبز للجنود الصرب والكروات قبل أن تحلّ لحظة الصفر في 11 تموز 1995.
يروي هذا الوثائقي القصير أيضًا حكاية مخيم "بوتوتشاري" وكيف أخفقت القوات الهولندية فيها وقصرت بشكل كارثي عن حماية المدنيين، في تعبير عن إخفاق أكبر من المجتمع الدولي، الذي ترك آلاف البوشناق للموت والإبادة الجماعية. كل ذكرٍ فوق 12 عامًا كان يقتل على الفور، وكثير من الأطفال دون ذلك قتلوا بين أيدي أمهاتهم وذويهم. نجا بعض العجزة من الموت قتلًا، وكثير منهم ماتوا قهرًا أو فرقًا من القتل. فبحسب إحصاءات دولية، يقدر عدد من قتلوا في سربرنيتسا بحوالي 8،100 شخص، إلا أن التقديرات البوسنية تصل بالرقم إلى 10،000 على الأقل، خاصة مع اعتبار عدد المفقودين من الأطفال، والذي يتجاوز 730 طفلًا. تروي إحدى الناجيات في الحلقة التي عرضها التلفزيون العربي، كيف أن الصرب كانوا يتعرضون للحافلات التي تحمل النساء والأطفال، فيسرقون منهن الأموال والمجوهرات، ويغتصبون من يغتصبون من الفتيات والنساء، وفي أحيان كثيرة كانوا ينحرون من معهم من الأطفال الذكور.
وبين السرد والتوثيق وفتح صفحة مهمّة من تاريخ ما حصل عام 1995، تحيي حلقة برنامج "كنت هناك" ذكرى سربرنيتسا كما يجب، عبر التذكير بأسماء القتلة، واستمرار الرعب من المذبحة بأشكال عديدة حتى اليوم. كما يضمّ البرنامج شهادة مهمّة من حسن نوهانفوش، والذي عمل مترجمًا لدى قوات الأمم المتحدة، يشرح فيها للمشاهد وضع سربرنيتسا كمنطقة محمية بموجب قرار من الأمم المتحدة، وكيف ظهرت فيها الخوذ الزرقاء من الكتيبة الكندية وبعدها من الكتيبة الهولندية سيئة الذكر. ويؤكّد حسن في شهادته كيف أن تلك المذبحة الكبرى قد حصلت على أعين الهولنديين وتحت نظرهم، وهو ما يرقى بحسبه إلى مستوى التواطؤ المفضوح مع الجريمة، وهو أمر أقرّت به هولندا أخيرًا العام الماضي فقط، حين اعتذرت عن فشلها في حماية المدنيين في سربرنيتسا ومسؤوليتها "الجزئية" عن ذلك، وهو اعتراف تم افتكاكه بعد سنوات طويلة من الإنكار والتنصّل ومحاولات إخفاء الأدلة والتوجيهات الصارمة لجميع الجنود الذين شهدوا تلك الأيام السوداء بعد الحديث عمّا حصل.
تفيد شهادات من شاركوا في هذه الحلقة بأن ذلك التواطؤ والصمت من قبل المجتمع الدولي، قد جعل الموت مضاعفًا في نظر ذوي الضحايا. فالجريمة كانت متوقعة وحتمية، وقد كانت يمكن تداركها ومنع حصولها، إلا أن قيمة البوشناق في ميزان العالم "المتحضّر" لم تبلغ بحسب شهادات الناجين قدرًا يجعلها جديرة بالتدخّل والدفع بالجنود أو العتاد وردّ المعتدي وإحباط خططه الإبادوية. ثمة قتل معنوي حصل للبوشناق في سربرنيتسا سبقَ القتل الفعلي والاغتصاب وخطف الأطفال، وتخبرنا شهادات الأمهات في الحلقة أن موت الناس هناك لم يعتبر خسارة أصلًا في نظر المجتمع الدولي آنذاك، حين صمت عن المجزرة وفضّل الحياد حتى في توصيفها، رغم وضوح خطط الزعامات الصربية، وجميع من أرادوها مجزرة كاملة سانحة، حتى أنهم قالوا لجنودهم حين تجلّت لهم حقيقة الموقف قرب المخيّم وبلغة من استشعروا الحصانة والتفويض: "أيها الإخوة الصرب، اغتنموا هذه الفرصة الذهبية، فإنها لن تتكرّر أبدًا لنا".
رغم ذلك كلّه، تنتهي الحلقة برسالة سلام وتعايش، تنقلها أمّهات الضحايا. تقول إحداهنّ إنها ربّت أبناءها على المحبة وأوصتهم بالعيش بعيدًا عن الكراهية وعمّن يقتاتون عليها، وتقول أخرى إنها علّمت أطفالها الحديث بأكثر من لغة، ورسختهم رغم الظروف الصعبة لهجة المحبة والسلام، والتجاوز عن الرغبة في الانتقام، وطرد الحضور الطاغي للموت في البوسنة بعد نهشة المذبحة الغادرة.