لا نقرأ في "غرفة مثالية لرجل مريض" (دار الآداب، 2005/ ترجمة بسام حجار) لليابانية يوكو أوغاوا، قصة تقليدية وإنما تأملات وتساؤلات وأفكار متفرقة تشكل عصب الرواية، التي تُطلعنا أوغاوا على نهايتها منذ صفحاتها الأولى، إذ تخبرنا بطلتها بأن شقيقها مصابٌ بمرض خطير، وأن ما تبقى له من الوقت لا يتجاوز عامًا ونصف أمضت معظم وقتها خلاله إلى جانبه في المستشفى.
تقف أوغاوا في روايتها على سلوك الإنسان وتصرفاته في لحظتين فارقتين تؤسسان شكل علاقتنا بالعالم، وبالآخرين، أو تُعيدان صياغتها، وهما لحظتا مرض من نحب وموته
لم يحدث خلال هذه الفترة ما يكفي لبناء حكاية، ولا يبدو أن يوكو أوغاوا مهتمة، أصلًا، بتقديم حكاية بقدر ما هي مهتمة بأن تحكي فقط، بصرف النظر عن طبيعة وغاية ما تحكيه. فما نحن بإزائه عند قراءة روايتها، ليس سوى تأملات وتساؤلات وأفكار بطلتها عن أحداث مضت وأخرى تحدث لتوّها من جهة، وأشياء متخيلة وواقعية، مهمة وتافهة، مبهمة وواضحة، شخصية وعامة من جهة أخرى. وما يجمع هذه الأحداث والأشياء ببعضها بعضًا، إنما هو مرض شقيقها الذي غيّر حياتها، وأعاد بناء شخصيتها وصياغة سلوكها وتصرفاتها ومشاعرها.
أعادت بطلة أوغاوا في المستشفى، أو داخل غرفة شقيقها تحديدًا، النظر في علاقتها بذاتها وماضيها وحاضرها وما خبرته فيهما، وصولًا إلى علاقتها بوالدتها وزوجها وجميع ما يحيط بها أو يصادفها، إذ تفكّر وتُساءل وتفكك مفاهيم تبدلت معانيها بعد دخول شقيقها إلى المستشفى، منها الحب والموت والنظافة والقذارة والفقد واليتم والأمومة والزواج، وغيرها من المفاهية التي لم تلفت انتباهها أو تفكّر بها جديًا قبل مرض شقيقها، الذي تقول إنه يتراءى لها أنها التقته: "بدءًا باللحظة التي أُدخل فيها لأول مرة إلى غرفته في المستشفى" (ص 67).
لا يحضر شقيق البطلة في الرواية بطريقة تتناسب مع موقعه بصفته مصدر ما يحدث ويقال فيها. فما نعرفه عنه لا يتعدى تفاصيل هامشية عابرة تتعلق، غالبًا، بأحواله الصحية وتطورات مرضه التي تصلنا عبر شقيقته، التي تدفعها نظافة غرفته إلى استعادة علاقتها بوالدتها التي توفيت بطلق ناري خلال عملية سطو على مصرف دخلته بمحض المصادفة. ذلك أن حضورها في حياتها يرتبط بالفوضى والقذارة اللتان هيمنتا على منزلهم بسبب إهماله له، ومردّ هذا الإهمال اضطراباتها العقلية والنفسية وما يترتب عليها من مزاج متقلب وتصرفات شاذة وغير متوقعة.
يأخذ تفكير البطلة في نظافة غرفة المرضى وقذارة منزل عائلتها، منحىً مختلفًا حين ترى إلى هذه الغرفة بوصفها المكان الوحيد النظيف في عالم يغرق بالقذارة. ولذلك، ربما، تطيل التفكير والنظر بما يرتبط بالقذارة، سواءً في الشارع أو في بيتها الذي لا يلفت انتباهها فيه، بمجرد دخولها إليه، سوى حوض المطبخ الذي تتكدس فيه الأواني المتسخة وبقايا الطعام التي تثير نفورها لا لأنها قذرة فقط، بل لأنها تجبرها على استعادة علاقتها بأمها التي حدد مفهوما النظافة والقذارة شكلها بالطريقة التي حددا فيها، بعد وفاتها، طبيعة علاقتها بالعالم التي سيُعيد هذان المفهومان صياغتها، مجددًا، بعد وفاة شقيقها.
لا تبدو المقارنة التي تقيمها أوغاوا بين القذارة والنظافة من منظور المرض، وعلى وقعه، مقارنة فلسفية بقدر ما هي شاعرية
تتعامل البطلة مع العالم، منذ دخول شقيقها إلى المستشفى، بوصفه مكانًا قذرًا يدنس الروح التي لا يُعيد لها نقائها سوى غرفة المرضى التي تجعلها مطمئنة، وتُشعرها: "بدعة المولود الجديد الذي تغمره مياه حمّامه الأول. ويغدو جسدي نقيًا من الداخل، شفافًا حتى آخر تجويف فيه" (ص 35)، ذلك لأن: "لا محلّ فيها للحياة. لا فضلات طعام، لا بقايا دهون، لا ستائر مشبعة بالغبار" (ص 35). ولأنها: "مُطهّرة تمامًا من منغصات الحياة كلها. وعندما أكون بصحبة أخي في تلك الغرفة، أشعر بأنني ملاكٌ أو جنيّة" (ص 83).
لا تُعطي يوكو أوغاوا المرض روايتها معنىً عميقًا أو بُعدًا فلسفيًا، ولا تبدو المقارنة التي تقيمها بين القذارة والنظافة من منظوره، وعلى وقعه، مقارنة فلسفية بقدر ما هي شاعرية. فما يعنيها في روايتها ليس تقديم مقاربة فلسفية للمرض، وإن مالت الرواية إلى ذلك في الكثير من الأحيان، وإنما الوقوف على سلوك الإنسان وتصرفاته في لحظتين فارقتين تؤسسان شكل علاقتنا بالعالم وبالآخرين أو تُعيدان صياغتها، وهما لحظتا مرض من نحب، وموته.