في عالم مزدحم بأحاديث وخطب غير متناهية عن العدالة والمساواة وحقوق الحيوانات بل وحتى النباتات، نجد أنفسنا اليوم، أمام ما يحدث في قطاع غزة، في واحدة من أشد مراحل البشرية انحطاطًا على الإطلاق، مُكبّلين باليأس والعجز والغضب وقلة الحيلة.
اكتسبت غزة في السنوات الماضية لقبًا مؤلمًا للغاية هو "أكبر سجن مفتوح في العالم"، إذ عانت لسنوات من حصار إسرائيلي خانق أدى إلى أزمة إنسانية كارثية، وحوّل حياة سكانها إلى كابوس لا يطاق. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تكاد غزة أن تتحول نتيجة العدوان الحالي إلى أكبر "مقبرة جماعية" في العالم.
في كتابه "غزة: بحث في استشهادها"، يقوم الأكاديمي الأمريكي نورمان ج. فنكلستاين بتشريح الحملة المنهجية التي شنتها الحكومة الإسرائيلية ضد غزة وشعبها منذ بداية الاحتلال، الذي جعله يصف ما تعرض له القطاع من قِبل الاحتلال بـ"الاستشهاد" من خلال مزيج من الاعتداءات العسكرية، والعقاب الجماعي، والحصار غير القانوني، وضرب القوانين الدولية والإنسانية بعرض الحائط.
يقدّم الإعلام الغربي صورة مشوّهة عن جرائم "إسرائيل" في غزة تخفف من فداحتها وتبررها بوصفها نتيجة لا بد منها لعمليات عسكرية مشروعة دفاعًا عن النفس
ولعل ما نراه اليوم هو ذروة هذه المأساة التي طال أمدها، ويبدو أننا قد نشهد على مرحلتها الأخيرة نظرًا لحجم العنف الذي تتعرض له غزة، مقابل استمرار فشل المجتمع الدولي في محاسبة "إسرائيل" على جرائمها أو حتى إيقافها على الأقل، الأمر الذي تكرر أكثر مما ندرك كما سيتضح لنا.
رواية "الضحية الإسرائيلية" وكشف الحقيقة
منذ بداية احتلالها لفلسطين، تستخدم "إسرائيل" عقلية الضحية للتلاعب بالمجتمع الدولي والإعلام الغربي وكل من يسمح لها بالتلاعب بعقله، وبالتالي غض الطرف عما يحدث أمام أعينهم ورؤية شيء مخالف للحقيقة. وفي قلب هذه الرواية تكمن الحجة المفضلة لدى "إسرائيل"، وهي "الدفاع عن النفس". إنها لازمة لا يزال يتردد صداها، ويعلو فوق صوت آلام الفلسطينيين ومعاناتهم في دوائر صنع القرار الغربية.
يكشف فنكلستاين في كتابه عن التناقض بين تأكيد "إسرائيل" بأنها "تدافع عن نفسها"، وأفعالها التي تبرهن أن هدفها الوحيد هو تأكيد سيطرتها على غزة ومنع إنشاء دولة فلسطينية. إذ فرضت "إسرائيل" على غزة طوال العقود الماضية نظامًا فريدًا واستغلاليًا أعاق بشكل فعال التنمية الاقتصادية، وحرم الشعب الفلسطيني من موارده الحيوية، بما في ذلك الأرض والمياه والأيدي العاملة، وقد ساهمت هذه الإجراءات القمعية في تفاقم محنة غزة.
وعلى مدار السنوات السابقة، برز نمط متكرر يتعلق بإشعال "إسرائيل" فتيلة الحروب ثم تذرّعها بالدفاع عن النفس كما حدث عام 2006 عندما صوَّت الفلسطينيون لصالح "حركة حماس" في الانتخابات البرلمانية. وكان هذا بمثابة منعطف حاسم، إذ سارعت "إسرائيل" إلى تشديد حصارها على القطاع، وتحويل الأنشطة الاقتصادية فيه إلى مجرد صراع من أجل البقاء. كما كان رد فعل المجتمع الدولي على هذا الاختيار الديمقراطي قاسيًا بنفس القدر، حيث فرض عقوبات معوقة وصفها فنكلستاين بأنها من بين أقسى العقوبات الجماعية في التاريخ الحديث.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2008، شنت "إسرائيل" غارة مميتة بهدف إثارة رد انتقامي لتبرير هجوم واسع النطاق. وقد تجسدت هذه الذريعة مع عملية "الرصاص المصبوب" التي بدأت في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008 وانتهت في 18 كانون الثاني/ يناير 2009. وخلال هذه العملية، أسقطت "إسرائيل" ألف طن من المتفجرات على قطاع غزة، وشدّدت حصارها عليه.
وفي النهاية، على من أُلقي اللوم؟ بالتأكيد على "حماس" وفصائل المقاومة الأخرى، إذ بررت "إسرائيل" تصرفاتها بأنها دفاع عن النفس ضد هجمات "حماس"، بالرغم من انتهاكها لاتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في عام 2008 بوساطة مصرية مع "حماس" وافتعالها الحرب. فمن كان يستحق آنذاك استخدام مصطلح "الدفاع عن النفس"؟
الحجة الثانية التي تستخدمها "إسرائيل" بكثرة هي استخدام المقاومة للمدنيين "كدروع بشرية" لأجل تبرير قتلها لهم في انتهاك واضح للقانون الدولي. ويذكر فنكلستاين في كتابه أن "منظمة العفو الدولية" لم تجد دليلًا واحدًا على استخدام "حماس" للمدنيين كدروع بشرية، لكنها وجدت أدلة عدة على أن "إسرائيل" فعلت ذلك.
وينتقد فنكلستاين المجتمع الدولي لقبوله ادعاءات "إسرائيل" بخصوص الدروع البشرية، ومن ثم السماح لها بالتهرب من المُساءلة عن جرائمها. ولا تكتفي "إسرائيل" بذلك، فحتى وإن جرت مساءلتها عن جرائمها، فإنها تنجح من خلال الضغط العالمي في إلغاء الأمر كأنه لم يكن.
لا صوت يعلو فوق صوت "إسرائيل"!
حدث هذا الأمر بشكل واضح وصريح مع شهادة ريتشارد غولدستون، وهو قاض سابق في المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا ومدع عام سابق في المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا وبرواندا كذلك.
قاد غولدستون بعثة تابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2009 للتحقيق في انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي وقعت خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في الفترة بين 2008 – 2009، الذي أطلقت "إسرائيل" عليه اسم عملية "الرصاص المصبوب".
تكاد غزة أن تتحول بفعل العدوان الإسرائيلي الحالي المستمر منذ 32 يومًا إلى أكبر مقبرة جماعية في العالم
وخلص تقرير غولدستون إلى أن "إسرائيل" ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال عدوانها، وأن كل الدمار الذي أوقعته أثناء تلك العملية كان مُتعمدًا على الرغم من تبريرها للهجوم على أساس الدفاع عن النفس ضد هجمات المقاومة، ولم يكتف غولدستون بذلك بل أدان أيضًا الطريقة التي تتعامل بها "إسرائيل" مع الفلسطينيين أثناء سنوات الاحتلال.
وبالتأكيد، انتقدت حكومة الاحتلال تقرير غولدستون مُدعية أنه متحيز وغير دقيق في الواقع، واتهمته بتجاهل سياق الصراع، والفشل في مراعاة حق "إسرائيل" في الدفاع عن النفس. كما واجه غولدستون رد فعل سياسي عنيف من حلفاء إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تبنى مجلس النواب الأمريكي قرارًا شجب التقرير بوصفه: "متحيزًا إلى درجة لا يمكن إصلاحها ولا يستحق أي اعتبار أو شرعية".
وفي البداية، دافع غولدستون عن تقريره، ولكنه استسلم وتراجع عن تقريره بعد تعرضه لضغوط هائلة من إسرائيل" ومؤيديها، ونشر مقالة افتتاحية في صحيفة واشنطن بوست في عام 2011، تراجع فيها عن بعض استنتاجات التقرير، وذكر أن "إسرائيل" أجرت تحقيقات أثبتت أن جيشها لم يستهدف المدنيين كسياسة مقصودة، وأن تقريره الأول افتقر لما أصبح يعرفه الآن.
وحدث أمر مشابه بعد هجوم البحرية الإسرائيلية على سفينة "مافي مرمرة" التركية التي حاولت كسر الحصار الإسرائيلي على غزة وتقديم المساعدات الإنسانية عام 2010. وقد تسبب الهجوم في مقتل عشرة أشخاص وإصابة أكثر من خمسين شخص، وطالبت تركيا الاحتلال حينها بالاعتذار وتعويض المُصابين وفك الحصار عن غزة، وبالتأكيد المطلب الأخير لم يتحقق.
وفي سبيل تهدئة الأجواء بعد غضب المجتمع الدولي بسبب ما حدث، شكّلت الحكومة الإسرائيلية لجنة للتحقيق وتقديم تقييم مستقل للأحداث المحيطة بالحادث، عُرف باسم "لجنة توركل" نسبة إلى اسم رئيسها، قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية المتقاعد جاكوب توركل.
وأجرت اللجنة "تحقيقًا شاملًا" وأصدرت تقريرها في يناير 2011 الذي خلص إلى أن الحصار البحري الذي تفرضه إسرائيل على غزة يتوافق مع القانون الدولي، وكذلك جهودها لفرض الحصار، وأن ما حدث كان نتيجة إخفاقات في التخطيط لاعتراض الأسطول، مما أدى إلى أعمال عنف غير ضرورية.
كان تقرير توركل موضوعًا للنقد والجدل، إذ شكك بعض المراقبين الدوليين في استقلالية اللجنة وموضوعيتها، ومن ضمنهم فنكلستاين الذي كتب أن التحقيق الذي أجرته لجنة توركل كان بعيدًا عن الحياد، وسلط في كتابه الضوء على القيود والعيوب في النهج الذي اتبعته اللجنة، مشيرًا إلى فشلها في إجراء تحقيق مستقل وشفاف في الحادث.
الخيانات الإنسانية العظمى
صدر بعد عملية "الرصاص المصبوب"، ما يقرب من 300 تقرير خاص بحقوق الإنسان من مختلف المنظمات. ولكن بعد عدوان عام 2014 الذي أطلق عليه الاحتلال اسم عملية "الجرف الصامد"، وهي الأكثر تدميرًا من بين الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، خفت صوت منظمات حقوق الإنسان وغضت الطرف عما حدث. وعندما رفعت "منظمة العفو الدولية" صوتها، جرت تبرئة "إسرائيل" من الجرائم التي ارتكبتها خلال عملية "الجرف الصامد" بشكل تام.
اعتمدت "منظمة العفو الدولية" في تحقيقها على المصادر الرسمية الإسرائيلية فقط، إذ منعت "إسرائيل" المنظمة من دخول غزة أثناء العدوان وبعد انتهائه، ومن ثم أجرت المنظمة أبحاثها من الخارج واعتمدت على ما تلقته من "إسرائيل" التي ألقت بكاهل جرائمها على "حماس" مدعيةً أنها هي من أجبرها على ما قامت به.
تستخدم "إسرائيل" عقلية الضحية للتلاعب بالمجتمع الدولي والإعلام الغربي حول حروبها المستمرة على قطاع غزة
فعلى سبيل المثال، دمّرت "إسرائيل" خلال عدوانها 17 مستشفى و56 مركزًا للرعاية الصحية زاعمةً أن "حماس" استخدمت ثلاثة منها، بالإضافة إلى 45 سيارة إسعاف. وذكرت منظمة "العفو الدولية" أن "إسرائيل" نشرت مقاطع فيديو تظهر مقاتلين فلسطينيين يستخدمون هذه المركبات للاحتماء، واستمروا في استخدام مبررات مماثلة لاستهداف المدارس ومحطات الكهرباء والمنازل واستهداف المدنيين والمرافق المدنية، تمامًا كما يحدث الآن.
وبالمثل، شكل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لجنة مستقلة للتحقيق في "الانتهاكات المزعومة للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان" أثناء عملية "الجرف الصامد". وكما هو متوقع، اتهم التقرير "حماس" بارتكاب جرائم حرب لكنه أشار كذلك إلى أن "إسرائيل" ربما قد ارتكبت جرائم حرب.
ويصف فنكلستاين الأمر بمحاولة إظهار "توازن زائف" لأن التقرير خفف من فداحة هذه الجرائم، وقدم صورة مشوهة عما حدث، كمت وصفت عملية الجرف الصامد بالعملية العسكرية المشروعة وإن شابها "بعض التصرفات المتطرفة".
هذه التقارير من أقوى المنظمات الإنسانية المزعومة دعت فنكلستاين إلى اعتبارها "خيانات عظمى"، وفشل منهجي في محاسبة إسرائيل، وهذا الوصف ينطبق على ما يحدث حاليًا. فالسعي لتحقيق العدالة في غزة الآن ليس خيارًا، وإنما ضرورة أخلاقية لا يمكن للبشرية أن تتحمل التهرب منها بعد الآن.