"أما وقد نجحنا في الذود عن بلادنا وشعبنا، وانتصرنا في مسعانا لجعل هذا البلد وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه، يعيشون فيه أحرارًا كرامًا، ويدفنون تحت ترابه، وننصب على قبورهم شواهد تؤكد صلتنا، نحن الذين ما زلنا أحياء، العميقة والعاطفية بهذه الأرض، وما عليها ومن عليها وتحتها على حد سواء. فإننا في هذه المناسبة، وبعد أن وضعت المصاعب أوزارها، وارتسم طريق الرفاه والاستقرار أمام مواطنينا جميعًا، نود أن نحتفل جميعًا برفع نصب تذكاري لضحايا هذا البلد، سواء منهم الذين ماتوا في حروب الذود عن حدوده، أو أولئك الذين قضوا تحت أنقاض بيوتهم وسياراتهم وفي شوارعهم، وتركوا خلفهم أحبة وأهلًا وأبناء، هم اليوم أحبتنا وأهلنا وأبناؤنا جميعًا".
أن نرفع نصبًا والحرب ما زالت سجالًا، فهذا قد يكون أدعى لإنكار الأحياء الذين قد يتحولون بعد وقت قصير إلى ضحايا
اقرأ/ي أيضًا: في أعمال إيلي طحان.. كيمياء تحويل الصورة إلى كلمة
على مثل هذه الخلاصات ترتفع النصب التذكارية في أي بلد من بلاد العالم. لا يقام نصب للجندي المجهول قبل أن تنتصر الأمة في حربها. ولا ترفع مسلة تخليدًا لضحايا الحرب قبل أن تكون الحرب قد وضعت أوزارها وبقيت الدولة – الأمة راسخة البنيان ومتينة اللحمة. أن نرفع نصبًا والحرب ما زالت سجالًا، فهذا قد يكون أدعى لإنكار الأحياء الذين قد يتحولون بعد وقت قصير إلى ضحايا. وأن نرفع نصبًا تخليدًا لضحايا مجزرة ما، فهذا يفترض، بداهة، أن يكون القصاص والعقاب بحق مرتكبيها قد تم وأنجز، وتم التواطؤ على نتائجه اجتماعيًا وقضائيًا. أما وأن البلاد ما زالت تخوض في سجالات حامية لتحديد المسؤوليات على الجرائم التي تحصل تباعًا وبصورة متواترة في لبنان، فإن رفع نصب لتخليد ذكرى الضحايا لا يعني غير أمر واحد: إننا نحتفل بموتهم، لأنهم كانوا فائضين عن الحاجة. اليوم تخففت البلاد من ثقل هؤلاء الضحايا، ولم نعد ملزمين بالمسؤولية عنهم، أحياء وموتى. وعليه نرفع نصب النسيان هذا فوق رؤوس الأحياء ليتذكروا جيدًا أن يشكروا سلطتهم في كل حين: حين تقتلهم، وحين تهملهم، وحين تقصيهم، وحين تستخف بهم.
إزاحة الستار عن أنصاب في بلد ما زال مهددًا كل لحظة بانفجار ما: أمني، اقتصادي، اجتماعي، ثأري، لا تحتمل معانيَ ملتبسة. أن يفكر فنان ما أو مجموعة من الفنانين، في تكريم الناجين من انفجار مرفأ بيروت، لو صح أنهم حاولوا ذلك وبذلوا جهدًا في محاولة التواصل مع ذوي الضحايا، برفع نصب تذكارية في مكان الانفجار، يعني أن هؤلاء الفنانين، كانوا ينتظرون مناسبة ما لصناعة أنصابهم ورفعها. موت الذين ماتوا في هذه الحال، يشكل مناسبة للاحتفال، وليس للتذكر. في بلد يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، وبات وجوده مهددًا من كل النواحي، منذا الذي يفكر في رفع أنصاب في ساحات أو أماكن عامة، غير الذي يحسب أنه انتصر نصرًا نهائيا على خصومه؟ وإذا كان الفنانون هم المنتصرون، فمن هم المهزومون في هذه المعركة؟ هل يجرؤ أحد على القول إن المهزوم هو المسؤول عن مقتل هؤلاء الضحايا؟ هل ثمة محكمة انعقدت لمحاسبة أحد ما على هذه الجريمة؟ ثم هل أعيد الناس إلى بيوتهم المدمرة والمتضررة، قبل أن نرفع نصبًا شامخًا أمام أعينهم؟ أم أن هذه وتلك ليستا من مهام الفنانين واهتماماتهم؟ في استعادة ممضة لدور الفنان المهرج، أو دور الشاعر المداح.
منذا الذي يفكر في رفع أنصاب في ساحات أو أماكن عامة، غير الذي يحسب أنه انتصر نصرًا نهائيا على خصومه؟
اقرأ/ي أيضًا: معرض سارة شعَّار.. قول الشيء ونقيضه
النصب الذي رفعه رسميون وفنانون ومنظمات غير حكومية في المنطقة التي حصل فيها انفجار بيروت، هو جريمة معاينة، ومثل كل الجرائم يجدر بنا إنزال العقوبة بمرتكبيها.
اقرأ/ي أيضًا:
"معًا".. بيروت ما بعد كارثة المرفأ
"مهرجان صوْر الموسيقي" في دورته الخامسة.. تحية إلى زكي ناصيف