على ما يبدو أن الحديث عن فيلم "الرجل الذي فقد ظله" الذي أُنتج عام 1968 من رواية تحمل نفس الاسم، صدرت في أكثر من 800 صفحة، ينبغي أن يبدأ من الحديث عن المؤلف نفسه، ثم التوقيت الذي ظهرت فيه حتى نكون على دراية أشمل بالمشكلات التي سردتها وتسببت بها في آن واحد.
كُتبت رواية "الرجل الذى فقد ظله" في فترة صعد فيها العديد من الصحافيين والكتاب على أكتاف التملق والنفاق والكذب والتدليس
وربما ذلك كان المفارقة التي ساعدت على خلودها لدينا ونسيان مؤلفها. حيث كان السؤال عن دور فتحي غانم الأدبي عندما أطلق اسمه على الدورة العاشرة لملتقى الرواية العربية عام 2015، ذلك المكان الذي يتواجد فيه المثقفين والسينمائيين الشباب، ورغم ذلك فلم يعرف البعض سوى أشهر رواياته.
تظل أكثر صفة شائعة يمكننا إلصاقها لغالبية الكتّاب هي كونهم "مثيرين للجدل"، لكن حياة فتحي غانم بالفعل يمكن أن تجعل تلك الصفة مشتركة في تعريفه بالتحديد دون غيره، حيث ترك ثروته الطائلة والاستمتاع بها ليكتب عن الآلام والأحزان والصراعات التي كان يمكنه الاستغناء عنها، فالكاتب الذي يريد نقل مشاعر وآلام الناس لا بد أن يكون أحدهم، لكن الوسط الأرستقراطي الذي جاء منه غانم، كان ناقمًا عليه، كما كان سببًا في الهجوم عليه بعد ذلك باعتباره لم يأتِ من أوساط الناس ولم يشعر بهم.
اقرأ/ي أيضًا: بين سينما مصر و"ثورة" ضباطها (1-2)
فكان هذا أكبر عقبات حياته، فخاض معاركه الفكرية والأدبية مع أبناء جيله أمثال: طه حسين ومحمود أمين العالم، وعبد الرحمن الخميسي الذي قال عنه "إنه ابن ذوات ولا يستطيع أن يفهم ما نكتبه، ولا يقدر أن يدرك ما نشعر به، نحن الذين ندافع عن الطبقات الشعبية الكادحة".
ومنذ أن أقدم الرجل على صدور روايته الأولى التي كانت بعنوان "الجبل" في أواخر خمسينات القرن المنصرم، كان اسم بطلها فتحي غانم، وربما يظهر لنا ذلك مدى تعلقه بواقعية الأحداث ومحاولة ربطها بالواقع بشكل يكاد يقرأه البعض ويفسره كحقيقة واضحة لا شك فيها، بالتالي فالرواية -مثل ما جاء بعدها- تعرضت لأذى شديد وتضييق عليها والحذف منها وقت صدورها، سواء "الجبل" أو"الرجل الذي فقد ظله" أو "تلك الأيام"، حيث إنه بالفعل كانت رواياته سببًا في فصله من وظيفته بالجريدة التي كان يعمل بها.
كُتبت رواية "الرجل الذي فقد ظله" في فترة صعد فيها العديد من الصحافيين والكتاب على أكتاف التملق والنفاق والكذب والتدليس، سواء كان يمارس ذلك خلال كتاباتهم أو فيما بينهم، لذلك يعتقد الكثيرون أن الرواية من أبدع وأهم الروايات المصرية سواء عن طريق حبكتها المحكمة كـ"رواية أصوات": أي أنها تحكي الحدث الواحد من وجهة نظر شخصيات عديدة، حيث صدرت على أربع أجزاء (مبروكة، ثم سامية، ثم يوسف، وناجي)، أو توقيتها الذي كان يمثل خطرًا كبيرًا على كاتبها، خصوصًا مع التلاسن بأن بطل القصة "الصحفي يوسف عبد الحميد السويفي" هو كاتب عبد الناصر الأول آنذاك محمد حسنين هيكل.
ذلك الصحفي الفقير، الذي رأى فيه الانتهازي الذي صعد بمساعدة أستاذه مصطفى أمين الذي تجسده الرواية على إنه "محمد ناجي"، لكنه استطاع أن يتسلق على أكتافه هو الآخر.
تظل أكثر صفة يمكننا إلصاقها بالكتاب هي كونهم "مثيرين للجدل"، لكن حياة فتحي غانم بالفعل يمكن أن تجعل تلك الصفة تخصه دون غيره
في نفس السياق يمكن للموسيقى التصويرية لفيلم "الرجل الذي فقد ظله" التي صنعها أندريا رايدر أن تضعك داخل شعور البطل أو "الضحية" لو جاز التعبير، مجموعة من مشاعر الخطر والخوف والقلق ولا سيما الضعف الشديد تجاه كل شيء، رجل يريد أن ينزع نفسه من ماضيه وأسرته الفقيرة إلى المكان الذي قادته الأقدار إليه على حساب أي شيء. موسيقى قد يمكنها أن تشعرك بالإزعاج لو لزم الأمر حتى تصل غايتها.
على جانب آخر لا يمكن إغفاله نجح المخرج كمال الشيخ والسيناريست علي الزرقاوي في نقل العمل سينمائيًا بشكل لم يخل بالقصة الأصلية للعمل، فاستطاعا نقل الواقع الصعب أثناء غارات الحرب والمعارك السياسية الدائرة في الجانب، وإظهار حالة الفقر التي كان يعيشها معظم المصريين آنذاك، وتسليط الضوء على ما يحدث في البلد وقتها، محاولًا الكشف عن الذين سقطوا أمام أهوائهم الشخصية وسيطرة خيانة مبادئهم وظروف بلدهم.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم Okja من نيتفلكس..وجبة سينمائية معجونة بالسخرية
يرى أغلب من قرأ الرواية أو مشاهدي الفيلم، أن تلك قصة صعود صحفي شاب على حساب الجميع، حتى أستاذه ومعلمه، أو على أنها صراعًا واضح المعالم والأسباب بين الخير والشر داخل النفس البشرية، وإلقاء اللوم الكامل على ذلك الصحفي الانتهازي "الطموح" الذي يستغل علاقته بأستاذه وصديقه لتحقيق طموحاته، كما يتنكر لطبقته الاجتماعية التي ولد فيها.
لكن على ما يبدو فالأشياء إن لم تتحقق تظل في رأس صاحبها رغمًا عنه، أي، قد لا يمكننا أن نطلق أحكامنا على هؤلاء الأشخاص المتهمين بالانتهازية والشر المطلق، وفي المقابل لا نستطيع أن نحمل لهم قدر من الاحتقار والاشمئزاز، لا نتعاطف معهم، كما يمكن ألا نعتبرهم أشرار بالمعنى الحرفي، على ما يبدو أن هدفهم الأهم الذي يعميهم عن كل شيء هو تحقيق الذات التي لم يستطيعوا تحقيقها في أي شيء نتيجة فقرهم داخل ذلك العالم المادي، وذلك كتكثيف للصراع الذي يدور داخلهم أكثر من كونه التماس عذر أو تحليل فلسفي.
على ما يبدو أن فيلم "الرجل الذي فقد ظله" تجسيد لشعور لا واع قبل أن يكون واعيًا حول "فقدان الظل"، بحر من المظلومية إلى جانب عدم التحقق، كان يوسف ينظر لكل الأشياء حوله باحتقار نتيجة ذلك الإحساس الحقيقي بالحرمان، لكنه الحرمان الطبيعي الذي يمكن ترويضه أو تجاوزه مع الوقت خصوصًا في حالة شاب متعلم مثله، في حين كان يرى أن كل شيء مباح فقط لعدم الشعور بالعجز مرة أخرى الذي شعر به عندما تركته حبيبته نتيجة فقره.
فيلم الرجل الذي فقد ظله تجسيد لشعور لا واع قبل أن يكون واعيًا حول "فقدان الظل"، بحر من المظلومية إلى جانب عدم التحقق
كره يوسف أباه باعتباره السبب في ذلك الفقر، صب غضبه على الجميع حتى صديقه الذي كان يحبه بصدق لكنه كان يكره الفقر أكثر، الكل سبب في ذلك دون ذنب، وهؤلاء ماض يجب التخلص منه لخلق واقع أفضل يناسب الطبقة الجديدة التي يلهث إليها منذ زمن، لا يهمه أن يخسر حب هؤلاء.
ربما لذلك يمكن للوهم أن يُفقد صاحبه كل شيء؛ الوهم الذي يعني هنا تحديدًا خلط المعاني والضبابية التي تجعل من صاحبها مختل يحارب طواحين الهواء، باعتبار الفرد في "حرب" و"صراع" ضد الجميع.
فالجميع يريدون سقوطه وفقره واحتياجه مرة أخرى، هكذا يفقد بطلنا "ظله"، أي بمعنى أو بآخر أهله وأصدقاءه ونفسه أيضًا مقابل صراع وهمي يمكن تجنبه، أو الفوز فيه دون تلك الخسائر.
كان الغباء الذي يمثله بطلنا ولا يزال يستحق الاحتقار والسخرية في آن، ويمكننا أن نرى نهايته وحيدًا دون أدنى شفقة، فمن لا يرى "الدمار" في كل ذلك ينبغي احتقاره، أو بتعبير الكاتب الروسي أنطون تشيخوف "أننا نرتكب حماقة إذا لم نعاقب هؤلاء الأغبياء" أي نتركهم ليدمّروا أنفسهم دون تدخل منّا.
اقرأ/ي أيضًا: