نقف هنا تمامًا عند تصور جديد نقيّ وفطري للعالم، عند حاجة ملّحة لإعادة تكوين صورة ما أولية عن الوجود. على جزيرة مقفرة تقذف الأمواج رجل وحيد، يحاول جاهدًا بناء قارب يوصله لمكان ما، ليهرب من الجزيرة والوحدة مبتعدًا عن الطبيعة، وباحثًا عن مأوى. أثناء محاولاته بناء هذا القارب والدخول به إلى عرض البحر باعتباره مخرج نجاته الوحيد باتجاه أي تجمع بشري على أرض مأهولة، تفشل محاولته الأولى في الإبحار، يعيد المحاولة مرات عديدة ويفشل أيضًا، ولكن في المرة الأخيرة تخرج من أسفل القارب سلحفاة حمراء كبيرة يتبين بأنها وراء إفشال رحلة الرجل المقررة.
يعود الرجل إلى الجزيرة مستسلمًا، غاضبًا ومحاولًا إيجاد طريقة أخرى للهرب. يرى السلحفاة أمامه تخرج إلى الشاطئ، يركض باتجاهها ويقتلها، وعندما يعود ليراها يجدها وقد تحولت إلى امرأة داخل قوقعة السلحفاة، يبتعد ثم يعود مجددًا فيجد بأن القوقعة فارغة والمرأة في البحر، فيصبحان معًا أول زوج على الجزيرة.
يحمل فيلم The Red Turtle تخيل سحري لعالم مكون من أب وأم وطفل، في دعوة لاسترجاع الشكل البدائي والنواة الأولى لمفهوم التجمع البشري
يلعب العنصر الغريب والمفاجئ دورًا هامًا في تحريك أحداث وتفاصيل الرجل في البداية ومن ثم تفاصيله مع المرأة والطفل، من خلاله يبدو عالم هذا الثلاثي قابلًا للتحول والتغيير من جديد، لا ثوابت ولا أساسيات متروكًا أمام السحر الذي تخلقه الحكاية وتحركه الصورة.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Nocturnal Animals" كائنات ليلية تحبس الأنفاس
السلحفاة الحمراء وهذا التخيل الأسطوري عن القدر والمصادفات، تحمل من المفاجأت ما لم يكن ينتظره الرجل، هو حقيقةً ليس بصدد البحث عن شكل أو تعريف جديد للحياة والعلاقة مع الطبيعة، ولكن الضرورة تجبره للتصدي لهذا العائق، فتتجلى الصدفة بشكل السلحفاة التي تتحول إلى امرأة، أي ضرورة ثابتة في حياة الرجل، وفي النهاية تعود إلى شكلها السابق ريثما تنتهي رحلتها معه، ليضيع الفارق بين الواقعي والسحري في الحكاية عندما ترجع السلحفاة الحمراء إلى البحر ويبقى الرجل وحيدًا على الجزيرة.
عالمٌ سحري تقوده الأصوات والموسيقى، لا مكان للكلمة فيه ولاصدى، يدخل المشاهد مجاهل هذا العالم مندهشًا أمام صورة من إنجاز استديو جيبلي الرائد بصناعة الأنيميشن في اليابان، والذي يقف إلى جانبه اسم المخرج الياباني هاياو ميازاكي، الاسمان اللذان خلقا بعدًا إنسانيًا لعالم الأنيمشن، حين قدما رؤيتهما للعالم بتصوراتٍ خلاقة يعيش السحر بين تضاعيفها.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم Hidden Figures: أمريكا بلد المتناقضات بامتياز
وجاء أثر فيلم السلحفاة الحمراء على ميازاكي إيجابيًا، وقد كان قد قرر الاعتزال ولكنه عاد عن قراره بعد مشاهدته للفيلم.
يحمل الفيلم إحدى التأملات المشبعة بالسحرية في تخيل عالمٍ مكون من أب وأم وطفل، في دعوة لاسترجاع الشكل البدائي والنواة الأولى لمفهوم التجمع البشري في إنتاج علاقة جديدة مع الطبيعة والأشياء المحيطة بالإنسان بكل ما فيها هذه الدعوة من مثالية عالية وتجرد.
فيلم The Red Turtle إخراج ميشيل دودوك، صاحب فيلم "الراهب والسمك"، حيث يعمل دائمًا على مكونين أساسيين هما الإنسان والطبيعة
الفيلم من إنتاج فرنسا بلجيكا واليابان، ومن إخراج الهولندي "ميشيل دودوك دو ويت" صاحب فيلم "الراهب والسمك" 1994 وفيلم "أب وابنة" 2000 والذي يرسم دائمًا على مساحة خالية إلاّ من مكونين أساسيين هما الإنسان وتفصيل آخر من الطبيعة، راصدًا علاقتهما من خلال حكايةٍ تتحرك معها تلك الخطوط الغامقة والحادة على الورق في رحلة بحثها أو انتظارها لأمر ما، في السلحفاة الحمراء، المرشح اليوم لجائزة أفضل فيلم أنيميشن، تبدو فيه بصمة المخرج أكثر كمالًا في رسمه لأبعاد الشخصيات والمكان ووضعها ضمن فرضيتها التي تتحرك فيها وتنتج الحلول، ليبدو مكانًا كالبحر أو الشاطئ مساحةً حرة وغامضة بنفس الوقت أمام الانتظار والتأمل.
فقد رُسم خلال ثمانين دقيقة من عمر الشريط السينمائي الصامت والمشبع بالموسيقى والصور، خطوطًا وسيرة حياة، في رؤية فريدة نتجول من خلالها في عوالم الجزيرة وكل ما يمكن أن ت
هبه الطبيعة للإنسان بما فيها من عطاءٍ وانحسار، وعوالم أخرى تبدو أكثر ضرورة في علاقة تتشكل بين أفراد عائلة صغيرة تتلمس تفاصيل ما حولها، تصنع منها شكلًا ما للحياة، مرتبطة بكل ما هو واقعي سحري كمترادفات وتراكيب للحكاية والصورة.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "أسد".. رحلة التيه في وقائع الخيال
20 فيلمًا ينتظرهم عشاق السينما في 2017