يعد فيلم "صمت الآخرين" (El Silenceo De Otros) صرخة في وجه الصمت الذي ساد فترة الحرب الأهليّة الإسبانيّة 1936-1939 ودكتاتوريّة الجنرال فرانسيسكو فرانكو من بعدها 1939-1975، وهو فيلم وثائقي حاز على عدّة جوائز بعد إطلاقه، منها جائزة مهرجان السينما في برلين كأفضل فيلم وثائقي عام 2018، وجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان السينما الأوروبيّة عام 2018، وكذلك حاز على جائزة غويّا السينمائيّة المرموقة في إسبانيا كأفضل فيلم وثائقي في شباط/ فبراير عام 2019.
"صمت الآخرين" فيلم يجسّد معاناة ضحايا دكتاتوريّة نهشت إسبانيا دولةً ومجتمعًا
مخرجة الفيلم المودينا كارّاثيدو التي تشاركت الإخراج مع زوجها الأمريكي روبرت باهار، أرادت لهذا الفيلم الذي بدأ التحضير له منذ سبعة أعوام أن يكون صوت معاناة ضحايا دكتاتوريّة نهشت إسبانيا دولةً ومجتمعًا، فعملت على محاورة مسنّين لا يزالون حتّى يومنا الحاضر يركضون لاهثين لتحقيق عدالةٍ لم يمكن بالإمكان تحصيلها في وقت الاستبداد، لعلّهم يصلون إلى جزءٍ منها قبل أن يواروا الثرى وذلك لكي تظهر الحقيقة على السطح للأجيال الحاليّة.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم To The Bone.. الجوع وسيلة للاحتجاج العاطفي
يبحث الفيلم عمّا هو إنسانيّ في قصصهم بعيدًا عن الأفكار والأيديولوجيّات السياسيّة. فهو ليس وثائقيًّا تقليديًّا يروي فظائع الحرب الأهليّة، إنّما يتابع معاناة الناس في ما بعد الحرب والدكتاتوريّة، ويتتبع قصص أبناء الضحايا وأحفادهم من وجهة نظرٍ معاصرة، منطلقًا من مقولة أن الجرح الإسباني لم يندمل بعد، وأن هذه المعاناة لا تزال تعيش في أعماقهم.
إبّان الحرب وفترة حكم فرانكو التي اتّصفت بالإقصاء ووحشيّة الدّولة تجاه كل من يخالفها، تمّ اكتشاف العديد من المقابر الجماعيّة السريّة، ويذكر أنّه وخلال حكم فرانكو تجاوز عدد المفقودين الذين لا يعرف ذووهم مصيرهم أكثر من مئة ألف إنسان. وبعد موت فرانكو، اتجهت البلاد إلى التغيير ودخلت مرحلةً انتقاليّة اتُّفق خلالها ضمنًا على أنّ يتم التغاضي عن الماضي وفتح صفحة جديدة بين الفرقاء فيما عُرف باسم "معاهدة النسيان"، ولم يتوصّل الإسبان إلى ما يسمّى ذاكرة تاريخيّة لإنصاف الضحايا على الرّغم من المطالبات الكثيرة لقوى سياسيّة ومجتمعيّة لسنّ قوانين تعيد الحقوق لمن فقدها حتّى ولو بشكل رمزي إن جاز التعبير، يتيح للضحايا دفن موتاهم بشكلٍ إنسانيّ على أقل تقدير.
جاب الفيلم خلال سبع سنوات مدن وقرى إسبانيّة عديدة للبحث عن ناجين من قمع حقبة فرانكو، من أجل إجراء المقبلات معهم بغية أن يقصّوا بأنفسهم تاريخ الخزي الذي عانوا منه أمام الكاميرا التي تتقن المخرجة كارّاثيدو التحكّم بها، فيما يختصّ زوجها باهار بالصّوت ومعدّاته، في تكامل يجعلنا نشعر أنّ قلوبنا تتتبّع أبطال الفيلم دون توقّف خلال كلامهم.
اكتشفت العديد من المقابر الجماعيّة السريّة، إبّان الحرب وفترة حكم فرانكو
يجمع الفيلم أيضًا إلى جانب المقابلات وبعض المقاطع التي صوّرت حديثًا لمحاكاة الماضي، يجمع أرشيفًا توثيقيًّا مهمًّا من التاريخ يظهر مقاطع مصوّرة تغطّي حقبة فرانكو وموته والعمليّة التأسيسيّة التي تلت مرحلة حكمه خلال فترة الانتقال السّياسي، وهو ما يعدّ منسيًّا في إسبانيا لأنّ أحدًا من الآباء لا يريد نقله إلى الأبناء، مما يعطي للفيلم ثقل مهم اليوم، لا سيما وأنّه عُرض في معظم دور السينما الإسبانيّة، وأراد صنّاعه أيضًا عرضه في المدارس والمراكز الثقافيّة لنشر المعرفة حول حقبة مهمّة من تاريخ البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "De Dirigent".. المرأة سيمفونية الطموح
يأتي "صمت الآخرين" لكسر حالة السكوت هذه، وتقول مخرجة الفيلم في مقابلاتها أنّ فكرة الفيلم خطرت لها بداية عندما أثير ملف الأطفال الذين كانوا يباعون أثناء الحرب والدكتاتوريّة بعد ولادتهم إلى عوائل ميسورة، وبعد قضيّة رُفعت من قبل ضحايا الحكم الفاشي وأبنائهم المهاجرين في الأرجنتين عام 2010 لتحقيق العدالة، لكنها لم تلقَ أيّ صدىً في إسبانيا حيث اعتبرها الادّعاء العام متقاضية بالزمن، بيد أنّ قضيّة الأولاد المختطفين أثناء الحرب وبعدها وقضايا الفساد والتدخّل الدكتاتوري في الدّين والفن والحياة الاجتماعيّة كلّ هذه الأمور باقية إلى يومنا هذا، ويمكن لأي إسباني أن يشعر بآثارها اليوم، لذلك كان لا بدّ للمخرجة وزوجها الانتقال إلى إسبانيا من مكان إقامتهم في الولايات المتّحدة والبدء بإجراء المقابلات، تحضيرًا لإطلاق فيلمهما الوثائقي الذي لم يكن ليرى النّور لولا تعاون المخرج الإسباني المشهور بيدرو ألمودوفار الذي أنتجه ودعمه تقنيًّا وفنيًّا.
اقرأ/ي أيضًا: