يشتغل الروائي دانيال زيليك بيرك في فيلمه "Damascus Cover" (إنتاج 2017) على مشاهد تظلُّ ناقصة عمدًا؛ إنّها، وكما يتبدّى للمشاهد، لعبة سردية تضمن للمخرج غموضًا ثابتًا يُصاحب أحداث شريطه هذا في صعودها وهبوطها لجهة الإثارة، لا سيما وأنّ حكاية الشريط وأحداثه بدت واضحة منذ الدقائق الأولى، أو هذا الذي أراده لها زيليك بيرك، ليصير الغموض الذي نجده نقصًا في مشهدٍ أو آخر، وسيلته في الحفاظ على خصوصية شريطه وتجنيبه الاستسهال في سرد أحداثه.
ينشغل شريط "Damascus Cover" بالعلاقات السورية – الإسرائيلية وطبيعتها وحيثياتها في ثمانينات القرن الفائت
ينشغل شريط "Damascus Cover" بالعلاقات السورية – الإسرائيلية وطبيعتها وحيثياتها في ثمانينات القرن الفائت، حيث المفاوضات بين الطرفين تجري بجدّية لتوِّها، قبل أن تشهد انهيارًا عميقًا يأتي تزامنًا مع أسر المخابرات السورية لأحد عملاء جهاز الموساد الإسرائيليّ في العاصمة دمشق. تعاملت السلطات السورية وأجهزة استخباراتها التي كانت تعيش حالة صراع مع مؤسّسة الجيش على النفوذ داخل الدولة، مع الأمر باعتباره نصرًا مبدئيًا على الاستخبارات الإسرائيلية، وأولى خطواتها في كشف شبكة عملاء الأخيرة في سوريا، وتمهيد الطريق أخيرًا لاصطياد أشدّ عملائها أهمّيةً وسرِّية، وهو "الملاك" الذي كان ورقة المخرج الرابحة في تحريك أحداث شريطه بحيث يظلّ متحكِّمًا بالكيفية التي يسير السرد وفقًا لها. وأيضًا، إنهاء شريطه بطريقة صادمة ومُشبعة بالدهشة من خلال شخصية "الملاك" نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: وثائقي "النكبة" أو "حلم هرتزل".. بيان تطبيعٍ سعودي وقح
نتعرّف إلى ما سبق حين يذهب بنا دانيال زيليك بيرك إلى قلب مدينة دمشق، حيث تدور أحداث شريطه الذي يُظهر المدينة فضاءً مُشبعًا بالرعب، بعد أن رزحت لسنواتٍ طويلة تحت وطأة أجهزة المخابرات والمُخبرين. هناك، نتعرّف إلى سليمان سرّاج (نافيد نيغبان) مدير المخابرات السورية الذي يعمل جاهدًا على الإمساك بـ"الملاك" وتسليمه إلى الرئيس الأسد ليضمن له مكانًا مميزًا عنده، وينهي في الوقت نفسه سنواتٍ من المنافسة مع مؤسّسة الجيش، منتصرًا هذه المرّة. نتعرّف أيضًا إلى "الجنرال فؤاد" (يغآل ناؤور) الذي تربطه علاقة قوية جدًا بحافظ الأسد، ويظهر في شريط زيليك بيرك الرجل الأوّل في الجيش، والعقبة الوحيدة في طريق "السرّاج" وطموحاته.
وفي هذا الوقت، حيث يدور صراع خفي بين مؤسَّستي المخابرات والجيش، يتتبّع دانيال زيليك بيرك مهمّة استخباراتية تُديرها المُخابرات الإسرائيلية، ويكلَّف بتنفيذها واحدًا من عملائها الألمانيين يدعى أري بينسون (جوناثان ريس مايرز). نعرف منذ البداية أنّ هدف العملية هو تهريب "الملاك" برفقة عددٍ من العائلات اليهودية السورية التي يستخدمها حافظ الأسد كورقة للمفاوضة والضغط، وإيصالها إلى كيان الاحتلال الإسرائيليّ. غير أنّ المهمّة تسلك طريقًا مختلفًا عن ذلك المتّفق عليه في منتصف الشريط، لنكتشف حينها أنّ العملية الأولى ليست سوى طعمًا تستدرج من خلال المخابرات الإسرائيلية "السرّاج" إلى الفشل الذي يُبدّد طموحاته وآماله، وبالتالي، تضمن حماية "الملاك" واستمراره في عمله لصالحها.
إذًا، ما نحن إزاءه ليس شريطًا سينمائيًا، وذلك بغضّ النظر عن الحكاية التي صوِّرت بطريقة مُشبعة بالتشويق والإثارة، إن كان ذلك في مشاهد المطاردة أو إطلاق النار والتعقّب. ما نحن إزاءه لا يتعدّى كونه شريطًا يسخر من الدولة السورية، بكلّ مؤسَّساتها التي ظهرت مخترقةً من الموساد الإسرائيليّ جميعها، وبالتالي صناعة صورة باهتة عن حقبة حافظ الأسد الأمنية، وتعزيز صورة "الموساد" في الوقت نفسه. وظهرت هذه السخرية في عدّة مشاهد، وأبرزها أنّ معرفة المخابرات السورية بما يخطط الموساد لفعله جاء عن طريق الموساد نفسه الذي كلّف أحد عملائه بتسريب معلومات العملية الأولى، أي عملية تهريب الملاك، للمخابرات بقصد إنجاز العملية الثانية، وهي الإطاحة بالسرّاج وجعله "مغفّلًا طموحًا" في الأوساط الأمنية السورية.
تأتي المشاهد الأخيرة من "Damascus Cover" مُشبعة بالإثارة: اكتشاف أري بينسون أنّ صديقته الصحافية تعمل لصالح الاستخبارات السّورية، وتجمعها علاقة مضطّربة مع السرّاج، مديرها الذي يحتفظ بابنها. وأيضًا، معرفته أنّ كان طعمًا للإطاحة بالسرّاج، وأنّ هناك خطة بديلة عليه تنفيذها ليتمكّن من الفرار برفقة عميل آخر كان على معرفة تامّة بما يحدث. هذه العملية كانت تقتضي استغلال الصحافية – العميلة بصورة صحيحة، وتمرير عدّة رسائل من خلالها إلى السرّاج، منها أن "الملاك" يستعد للهرب برفقة بينسون الذي وقع أسيرًا في يد الجيش، بينما تمكّن الملاك المفترض والمزيّف من الفرار، ما أطاح بالسرّاج من منصبه، وتوسّع نفوذ مؤسّسة الجيش مرّة أخرى.
صوّر "Damascus Cover" العلاقة بين السوريين والإسرائيليين عن طريق عملاء وضعوا في مناصب رفيعة، ومقرّبين من الأسد الأب الذي ظهره بدوره متواطئًا
المفاجأة الحقيقية التي مهّد لها المخرج لما يزيد عن ساعة ونصف، كانت في أنّ "الجنرال فؤاد"، الرجل الثاني في الجيش بعد حافظ الأسد، هو الملاك نفسه الذي عمل الموساد على حمايته من السرّاج ونفوذه الأخذ بالاتّساع في الدولة السورية. هكذا، عقد الملاك، بصفته جنرالًا في الجيش السوريّ هذه المرّة، صفقة تبادلية قضت بإطلاق سراح بينسون مقابل عدد من أسرى الجيش السوريّ.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "واجب".. طوفان من القصص الفلسطينية
صوّر الشريط إذًا العلاقة بين السوريين والإسرائيليين الذين ظهروا مخترقين لمؤسَّسات الأولى عن طريق عملاء وضعوا في مناصب رفيعة، ومقرّبين من الرئيس الأسد الذي ظهره بدوره متواطئًا، ومحافظًا على طبيعة العلاقة مع الصهاينة. وعلى الطرف الآخر، صوَّر دانيال زيليك بيرك الموساد وعملاءه كمؤسّسة إنسانية لا استخباراتية مُجرمة، رابطًا أفعالها بما حدث لليهود في حقبة النازيين، كوسيلة للتبرير. ولكنّ ثمّة في الفيلم هفوات كافية لنسف رسالته تلك.
اقرأ/ي أيضًا: