"The Platform" فيلم بمثابة رحلة إلى القعر، أي إلى تلك الطبقات الأكثر فقرًا، ومدى انعكاس التفاوت الطبقي على العلاقات الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية. إنه فيلم بنظرة تشاؤمية عن النوع البشري ويكشف عن الوجه اللإنساني للإنسان في أوقات الأزمات الضاغطة حيث تحتدم المنافسة والصراعات من أجل البقاء على قيد الحياة.
الاختلافات بين أولئك الذين يمتلكون الثروات وأولئك الذين لا يمتلكون شيئًا لم تكن أبدًا مثلما هي عليه الآن
يطرح الفيلم الذي أخرجه غالدير غاستيلو أوروتيا قضية عالمية حول توزيع الثروة وهي قضية لطالما كانت قيد النقاش وستستمر طالما هناك بشر. فالاختلافات بين أولئك الذين يمتلكون الثروات وأولئك الذين لا يمتلكون شيئًا لم تكن أبدًا مثلما هي عليه الآن. هذه الهوة بين الأكثر غنى والأكثر فقرًا تتسع باستمرار وصارت شديدة الوضوح ولا يبدو أنها ستنتهي.
الحفرة
تتضمن الحفرة مستويات عدة مكدسة فوق بعضها البعض تصل إلى حوالي 300 حفرة وتحتوي كل حفرة على شخصين. الحفرة مستطيلة لا أبواب لها ولا نوافذ. فقط مغسلة صغيرة ورقم للغرفة محفور في الحائط.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Platform".. سجن يحاكي مجتمع الطبقات
نجد في المستوى الأول في الأعلى كيف يصل الطعام على شكل بوفيه معد بطريقة ماهرة ومنمقة وبرجوازية، ومن ثم ينزل الطعام من المستوى الأعلى إلى المستويات الأدنى مرة كل يوم لمدة دقيقتين وعلى السجينين الموجودين في الحفرة تناول الطعام، وهكذا يستمر البوفيه بالنزول حفرة وراء حفرة في الوقت الذي يتم فيه التهام الطعام.
وبطبيعة الحال تتضاءل كمية الطعام حتى تنتهي دون أن يتمكن السجناء في المستويات الدنيا من الأكل مما يرتب نتائج وخيمة. كذلك يمنع على أي سجين تخبئة الأكل لأن ذلك سيؤدي إلى الموت بردًا أو حرقًا. وفي كل مرة تتغير مستويات الأشخاص في الحفرة.
يدخل "غورينغ" إلى الحفرة وهو شخص مثقف وحسن النية لم يتلوث بعد بأوساخ البشرية ولم يتعرف إلى حقيقة الوجوه المختلفة للبشر. يتوقع غورينغ أن ينال الاحترام والمعاملة اللائقة، ولكن سرعان ما يتضح له أن الجشع والخوف من الموت يحكمان فوق كل شيء ويسيطران على سلوك البشر. غورينغ شخصية دونكيشوتية، فكما حارب دونكيشوت طواحين الهواء، يثور غورينغ على السيستم المنظم والصلب داخل الحفرة.
الأنانية
هناك طعام يكفي لجميع المستويات كي يبقى الجميع على قيد الحياة، لكن شرط أن يأكل كل شخص الكمية المحددة له للبقاء على قيد الحياة. وأي خلل في توزيع الطعام وفق النسبة المحددة لكل شخص سيؤدي إلى موت من هم في المستويات الدنيا من الجوع. وبطبيعة الحال لا يقوم من هم في المستويات العليا بأكل الكميات المخصصة لهم، بل يلتهمون دون اكتراث بقاطني الحفرة في المستويات الأدنى.
هناك أنانية مشفرة في الحمض النووي الخاص بالبشر. إنها غريزة البقاء على قيد الحياة
هكذا في كل شهر يتم توزيع الأشخاص على حفر مختلفة فإذا كان نصيبك الحفرة رقم 8 فهذا أمر ممتاز وأما إذا كان نصيبك الحفرة رقم 200 فهذا ينذر بعواقب بشعة إذ لن يصل غير الفتات وربما تصل الصحون فارغة. فما الحل؟ كيف يمكن حينها الاستمرار في العيش لمدة شهر دون طعام! يتحتم حينها أن يقتل أحد الشخصين الموجودين في الحفرة زميله وأكل لحمه أو الموت جوعًا.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Tall Girl".. حين يحدّد الجسد هويتنا
هناك أنانية مشفرة في الحمض النووي الخاص بالبشر. إنها غريزة البقاء على قيد الحياة، غريزة مقاومة الموت، التخلص من الألم، والعيش بسعادة. الإنسان مفطور على الأكل والشرب وفي لحظة ما يمكن أن تتبدل محتويات الطعام من كونها حيوانية ونباتية إلى كونها مستخرجة من الجسد البشري الحي. لا شيء يقف، أو لا عقبة يمكن أن تقف في وجه غريزة الحياة. لذلك، ومن أجل الحياة نفسها يمكن التضحية بحيوات أخرى.
المسؤولية الفردية
فيلم يشيد منظومة تراتبية متخيلة رمزية لبث رسائل حول الصراعات الطبقية ودور الطبقة في تحديد سلوك الأفراد والمسؤولية الفردية للإنسان الواجب التحلي بها خارج تأثير هذه المنظومة. يطرح الفيلم وجهات نظر أخلاقية حول أخلاق الطبقة وأخلاق الفرد وأخلاق الجوع.
لا تدور الحرب فقط بين من هم "فوق" ومن هم "تحت" فجميعنا لدينا شخص فوقنا وآخر تحتنا. ويمكننا المطالبة دومًا باتخاذ إجراءات من السياسيين ومن الطبقات الأكثر غنى، ولكن عدم استجابة هؤلاء لمطالبنا لا يعفينا من المسؤولية الأخلاقية الفردية المنبثقة من الإرادة الحرة للإنسان.
حين ينظر غورينغ إلى الأعلى ويطلب منهم التحلي بالمسؤولية لا يأبهون لكلامه، حينها يتجه تركيزه إلى من هم في الطبقات الأدنى للبحث عن حلول وعمل ما تفرضه عليهم المسؤولية والإرادة الحرة. فالسؤال هو "ماذا أفعل ومن أين أقاتل هذا الهيكل المتوحش والأناني الذي يمتد في جميع أنحاء مجتمعنا ويستشري داخل النوع البشري؟".
يشيد فيلم "The platform" منظومة تراتبية متخيلة رمزية لبث رسائل حول الصراعات الطبقية
وأما ترايماغاسي زميل غورينغ في الحفرة فيبرر جريمته بالقول إنه ليس مسؤولًا عن أفعاله، وإنما المسؤولون هم قاطنو الحفر في الأعلى الذين التهموا كل الطعام فلم يتبقى شيء ليأكله. ترايماغاسي ينكر أي مسؤولية فردية لأفعاله ويعتبرها خارجة عن إرادته وناتجة عن الظلم الاجتماعي بحقه، لكن غورينغ يحمله المسؤولية المطلقة عن جريمته!
اقرأ/ي أيضًا: في زمن كورونا.. أفضل 6 أفلام عن الأوبئة
لا يعطي الفيلم إجابات على قدر ما يطرح أسئلة وافتراضات على المتلقي للبحث والتفكير بها. لا يقول الفيلم ما هو الخير وما هو الشر، وبدلًا من ذلك يضع المشاهد في تساؤل: ماذا كنت لتفعل لو كنت في الحفرة رقم 8 مع كمية كبيرة من الأكل؟ وماذا كنت لتفعل لو كنت في الحفرة 202 دون أي لقمة لتسد بها جوعك؟ وحين يجوع يأكل غورينغ صفحات الكتاب الذي أحضره معه. فما نفع الثقافة حين تكون المعدة خاوية!
النظام والعنف
نصادف في الحفرة امرأة تقتني كلبًا في الوقت الذي يلهث الجميع وراء الطعام دون الاكتراث بالآخرين فيما تعبر هي بالقول "سأطعم الكلب من حصتي"، وكما يبدو فإنها امرأة قد يأست من البشر وطبائعهم السيئة فاختارت الكلب صديقًا لها. في كل يوم كانت تحاول هذه المرأة تحديد كميات الأكل لكل شخص وتدعو الجميع للالتزام بذلك لكن دون جدوى إذ تقابل بالرفض التام.
يتدخل "غورينغ" ليحسم الموقف ويساعدها بفرض النظام مستخدمًا القوة والعنف مما يؤتي ثماره في ردع من هم في الأسفل عن استهلاك كميات كبيرة من الطعام. لكن من سيفرض النظام على من هم في الأعلى؟ طبعًا الأعلى منهم. وهكذا دواليك كل راعي مسؤول عن رعيته. الطعام هنا يقوم مقام الثروة، فلا تتغوط على منهم هم أسفل منك لأنه حتمًا هناك من سيتغوط عليك من الأعلى.
إن البشرية مسجونة في عالم رأسمالي ويعلم غورينغ أن التغيير ممكن، لكن التغيير السلمي غير متاح ولا بد من العنف الثوري لتثبيت أركان النظام العادل، وقد وصف بأنه شيوعي لإيمانه بأهمية الحصص الغذائية. فلا أمل للبشرية في المستقبل الجيد سوى بالمضي قدمًا نحو القسمة العادلة للثروات بين الشعوب. لكن: هل غسل الدرج يبدأ من الأعلى أم من الأسفل؟!
أخلاق الجوع
طوال الفيلم نرى كيف بدأت رحلة غورينغ بين العديد من الحفر في التأثير على أخلاقه مما أجبره على القيام بأشياء كان يعتقد في السابق أنها مستحيلة. لم يكن يفكر أو حتى يتخيل أنه في يوم من الأيام سيتمكن من طعن شخص آخر وقتله لكنه فعلها تحت هول الصدمة والخوف والرعب، ولم يكن يفكر أو حتى يتخيل أنه في يوم من الأيام سيأكل لحم إنسان لكنه تحت وطأة الظروف فعل ذلك. إنها أخلاق الجوع وأخلاق السيستم الرأسمالي لذا كي "يعيش ناس يجب أن يشقى ويموت أخرون".
إن البشرية مسجونة في عالم رأسمالي والتغيير ممكن، لكن التغيير السلمي غير متاح ولا بد من العنف الثوري لتثبيت أركان النظام العادل
المشاركة غائبة كليًا والحس بالمسؤولية منعدم. نجد مساجين يقفزون على الأكل ويدوسونه بأقدامهم بعد أن يشبعوا دون التفكير بمن هم متضورون من الجوع في الأسفل. هانك وفرة من الثروة وتبذير لدى فئة غنية بينما يرزح الفقراء في القلة. وحين تصل المائدة خالية إلى الحفرات السفلية نجد الصحون الفارغة المصنوعة من الزجاج والتي تتحول في نهاية المطاف إلى أدوات للقتل والعنف. هناك أزمة أمن اجتماعي حاد تخلقه هذه التفاوتات الطبقية.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الرجل الذي عرف اللانهاية".. رامانوغان عبقري الرياضيات المنسي
يرمز المطبخ إلى أحلام الفقراء الجائعين الذين يتصورون الأطعمة الشهية كما يتم تقديمها للفئات الغنية من البرجوازيين الكبار والأرستقراطيين. داخل الحفرة يصيح كل إنسان "اللهم نفسي". حتى عنوان المبنى هو "مركز الإدارة الذاتية العامودي" ومعنى ذلك بالعامية كما يقال "القبضاي يدبر راسه".
يظن غورينغ أن عدد الحفرات هو 200 حفرة لكنه يكتشف أنها تفوق ذلك بكثير (333 حفرة) وهي في تزايد مستمر والبشرية كذلك، وكلما زاد عدد سكان الكوكب كلما صارت هذه التفاوتات أكثر حدة وكلما زاد عدد الفقراء حول العالم. إننا نظن أن كل شيء بخير، إلا أن ذلك غير صحيح لأن مجال إدراكنا محدود ومقتصر على المحيط الذي نعيش فيه فقط لا غير.
لكن ماذا يوجد هناك في الخارج؟! ما الذي يحصل في أرجاء الكوكب وفي قاراته المتعددة البعيدة؟! بالتأكيد فإننا لا نعلم لأن مجال إدراك الإنسان محصور ومقيد بكينونته ووجوده ليس إلا. إن ما يجهله الإنسان عن الفقر أكبر بكثير مما يعرفه. وهكذا نشأ ما يسمى بأخلاق الجوع، لكن الجوع لا أخلاق له!
نظرة تشاؤمية
لا مكان في الفيلم غير الحفرة مما يدل على عدم وجود أي تصور لعالم ما بعد الحفرة وماهيته وكيفيته. إنه عالم مستقبلي مجهول. ويوحي السيستم بأن قوانينه أبدية وجبرية مما يجبرنا على القول "هذه هي الحياة"، لكن غورينغ يرفض هذه المقولة ويؤمن بإمكانية كسر هذه الصنمية لقوانين الحفرة وخلق نظام جديد لعالم جديد.
حتى من الناحية الدينية فالحفرة لا تعترف بالمبدأ الديني القائل "من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره"، أو كما تنص الكارما على أن أعمال الإنسان تعود إليه بالمنفعة أو بالضرر. في الحفرة هناك عشوائية تسير الناس والعلاقات الإنسانية فمهما كنت شخصًا جيدًا ربما سيتغوط أحدهم عليك. الحفرة هي الواقع المعاش وتستبعد جانبًا كل فكر ديني لأن الخلاص الإنساني صنيعة الإنسان ولا مجال لانتظار المخلص الديني لنجدة البشرية.
نظن أن كل شيء بخير، إلا أن ذلك غير صحيح لأن مجال إدراكنا محدود ومقتصر على المحيط الذي نعيش فيه فقط لا غير
في الحفرة يوجد ثلاثة أنواع من البشر: من في الأعلى ومن هم في الأسفل ومن يسقطون موتى جراء هذا النظام غير العادل. حتى الأغنياء لا يشعرون بالسعادة ويلتهمون الطعام كالحيوانات وبعضهم ينتحر. التعاسة مقدرة على البشرية وما دام الموت المحتوم يلوح هناك في المستقبل فلماذا ننتظره! بدلًا من ذلك نذهب إليه لأننا لا نعلم أين سنكون بعد شهر فهل يحتمل الغني أن يعيش عيشة الفقراء ويموت جوعًا؟ إن هذه الفكرة تؤرقه ويفضل عليها الانتحار.
اقرأ/ي أيضًا: في فيلم "الطفيلي".. رائحة الفقراء في مرايا السينما
في النهاية تمثل الطفلة رسالة إلى الأجيال القادمة لهدم السيتسم أو تعديله وهي نهاية رومانسية إلى حد ما تترك بصيصًا من الأمل للخلاص من اللاعدالة واللامساواة. إنها بمثابة المنارة لتهتدي بها البشرية في طريقها إلى المستقبل المجهول الذي لا يمكن لأحد التكهن به.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "The Boy Who Harnessed The Wind": درس في التحدّي
فيلم "The Escape From Alcatraz".. كيف تحطمت أسطورة أشهر سجون أمريكا؟