ربما تكون أهم نقطة غير منتبهٍ لها في السرد، هي وجهة النظر، أو من أين تُحكى القصة، من أية زاوية وأي مصدر، من يحكيها وكيف يحكيها؟ ويستخدم القاصون لذلك تقنيات مختلفة، كالشخص الأول الذي يحكي القصة من زاويته فقط، أو الشخص الثالث الحاضر دائمًا، والذي يبدو للقارئ/المشاهدِ عارفًا بكل شيء، وتلك هي أكثر التقنيات استخدامًا في السينما، أي أن كاتب السيناريو واعٍ به، ويقدمه للمشاهد بالتدريج من مختلف الزوايا، غير مرتبط بمكان واحد أو زمان واحد، غائب عن كل شيء، حاضر في كل شيء، وقادر على سرد كل شيء.
ليس معقدًا وضع عدسة علوية فوق المشهد، وأخرى جانبية، وتترك للمشاهد اختيار ما يناسبه من المعاني. لكن الأصعب هو تقديم منظور مختلف
وهذا على فاعليتهِ بسيط جدًا، أعني ليس معقدًا أن تضع عدسة علوية فوق المشهد، وأخرى جانبية بقربه، وتترك للمشاهد اختيار ما يناسبه من المعاني في الإطار. لكن الأصعب هو تقديم منظور مختلف، عبقري، تفصيلي، غير موضوعي، ذاتي، غريب، كذلك الذي يُحكى منه فيلم American Beauty: منظور الإنسان الميت!
تبدأ قصة فيلم American Beauty بسردٍ من صاحبها ليستر بورنام، الذي يخبرنا أنه ميت، أو سيموت، وأن كل ما سيحدثُ قبل موته، هو مقدمة لتلك النهاية، نهايته هو وبداية الفيلم، في حلقةِ وجود وفناء، نحن نقرر متى تبدأ ومتى تنتهي. يحكي ليستر، الذي يؤدي دوره السير كيفن سبيسي بعبقريته الأصيلة، المتجددة، والمبدعة، يحكي التفاصيل من زاويته في إطار عام للفيلم، يوجه مساره نحو تلك النهاية المحتومة، التي رغم أهميتها وإداركنا لتأثيرها على سير القصة، إلا أنها تبدو مع الوقت، ومع تتابع الأحداث، هامشية تمامًا، أعني، لا فائدة ترجى من انتظار المحتوم.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Baby Driver والموسيقى التي يمكن بناء كل شيء عليها
وبالتالي يركز فيلم American Beauty على التفاصيل، على الزوايا، على المنظور الآخر والآخر والآخر، يأتي بالقصة من كل جوانبها، ولا يتركنا لآرائنا إلا بعد النهاية الأخيرة، بعد أن نعرف ما حدث في كل قصة لوحدها، ومع كل شخصية في وحدتها وفي تأثرها بمن حولها وتأثيرها فيهم، وذلك هو السرد المتين.
درجت العادةُ أن يُكتب عن فيلم American Beauty من زاوية التحليل النفسي، ومعالجته لسيكولوجية الإنسان، وتقلبات أحواله النفسية، والأسئلة التي يطرحها بداخله، في كل مراحل العمر. لكن "الجمال الأمريكي" بالنسبة لي، قبل أن يكون عرضًا سيكولوجيًا للمجتمع في مرحلة ما، هو درس في فن الحكاية، في النظر من أغرب الزوايا إلى أبعد نقاط الرؤية للنفس والذات وعلاقة الفرد بالآخر. فَليستر بورنام، محور السرد في الفيلم، يحكي آخر أيامه بتجرد كامل، إذ هو لن يخسر شيئًا بإخبارنا عن تفاصيل ما حدث معه.
إنه ميت، والميت لا يخشى عقاب الأحياء أو نظراتهم إليه، الميت حر، يفعل ما يشاء ويقول ما يريد. وكذلك بقية الشخصيات في الفيلم، بدرجات أقل، كل واحدة منها خَلقت فقاعة سردية حولها، تخبرنا فيها عن أعمق مخاوفها، عن أسرارها وعن الثنايا التي لم يصلها أحد، عن التفاصيل الثقيلة التي يجب أن تخرج للعلن، كي يتنفس الإنسان.
عدا عن ليستر، هناك خمس شخصياتٍ أساسية في فيلم American Beauty، تقدم كل واحدة منها منظورًا مختلفًا للحكاية، فالزوجة "كارولين" ترينا كيف بإمكان الضغط النفسي، من مسؤوليات الفرد تجاه الأسرة والمجتمع، أن يحول حياة امرأة إلى عكس ما كانت تحلم به، كيف أنّ الإنسان يتغير ليس بدافع داخلي فقط، وإنما جراء تكرير وتكريس رفض الآخرين له، وحجزهم له في نطاق مخيلاتهم، في نطاق ما يريدونه أن يكون، فيشب في لحظة ما عن طوق السوسيولجيا القاهرة، ويسكر بخمر الرفض، ويفعل كل ما كان يخشى فعله، يصبح بين آن وآخر، شخصًا مختلفًا تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: روبن ويليامز.. في الذكرى الثالثة ربما لم يمت منتحرًا
وترينا الابنةُ "جين" زاوية الفتاة المسكونة بالنقص، التي تفيض حسرة على حياةٍ لم تخترها، وتبحث جاهدة عن خلاص من الواقع الذي يخنقها، تبحث عن من تتعلق به، تعطي فرصة للغريب أن يعبث بخصوصيتها، لأن في ذلك العبث منجاة من التعود، ومن طبيعة الأشياء المملة، ومن الحياة الباردة بين الجدران، ومن صراخ أبوين لكل منهما عالمه الذي لا يمكن لغيره أن يدخله، تجد جين خلاص ذاتِها في العبث.
خارج أسرة البورنامز التي تبدو وادعة من الخارج، بورود الأم الحمراء والسيارة العائلية الصغيرة، نرى شخوصًا أخرى، نرى شخص "آنجيلا هايس" الفتاة المراهقة التي تعيش داخل عالم من الفانتازيا اختلقته لنفسها، داخلَ صورة كونتها بإغراءٍ، ليراها الآخرون أفضل وأقدر على الوصول لما تريد، صورة المراهقة المتحررة، البالغة، الناضجة، التي تكشف وتكتشف زيفها في آخر لحظة، وتعود مسرعة إلى حقيقتها الهشة: أنها مثل الجميع، ليست حقًا كما تبدو.
يركز فيلم "الجمال الأمريكي" على التفاصيل، على الزوايا، على المنظور الآخر والآخر يأتي بالقصة من كل جوانبها
ثم نجد شخصية "ريكي فيتس"، ابن الكولونيل المتقاعد "فرانك فيتس"، ريكي الذي الذي يعيش داخل البيت حياة شبه عسكرية، صارمة وقاتمة، تجعله يبني لنفسه حياة موازية، فهو كالجميع، غير راضٍ بما حوله، فيجد خلاصه بكسر خصوصيات الناس، وتتبع أيامهم، وأحيانًا، مساعدتهم على خلقِ أوهامهم الخاصة، إذ يبيعهم ما يريدون، ويأخذ منهم رضاه بأنه يفعل ما يريد.
وفي النهاية، يأتي الموت، يرتكب الكولونيل الخطيئةَ السادسة، وتبدأ قصة الجمال الأمريكي الكامن في التفاصيل المحجوبة، الجمال المعقد، المركب، الفائض حزنًا وفرحًا وإنكارًا وتظاهرًا، الجمال الأخاذ بتناقضاته، الباذخ بسبره لأغوار النفوس.
اقرأ/ي أيضًا: