واحدة من مشاكل أزمة منتصف العمر هي عدم تقبل الوضع الآني، لأنه لا يشبه تصورات سابقة عن نوع الأشخاص الذين سنكونهم، تمثّل رفض دائرة الحاضر الآني واستدعاء للحالة "الفورية" التي كانت قوام مرحلة الشباب "الجمالية"، التي يصف كيركجارد الأشخاص الذين يعيشونها "يركز الشخص الذي يعيش هذه المرحلة ـ والمرء يستطيع أن يعيشها طيلة حياته ـ على الحاضر ويظل غير مبالٍ بالتوبة من الماضي أو بالالتزام تجاه المستقبل إلا على نحو حذر يهدف إلى تجميل الحاضر".
واحدة من مشاكل أزمة منتصف العمر هي عدم تقبل الوضع الآني، لأنه لا يشبه تصورات سابقة عن نوع الأشخاص الذين سنكونهم
في فيلم "Druk"، يدرك أربعة مدرسين في منتصف العمر أزمتهم على طاولة عشاء مشترك، وهي طريقة عرض كلاسيكية عمد على استخدامها المخرج توماس فينتربرغ، لأنها لا تغادر فلك كيركجارد الذي استوحاها بدوره في إحدى قصصه من مائدة أفلاطون.
اقرأ/ي أيضًا: خودوروفسكي وسفينة الحمقى
مارتن الذي يقوم بدوره (ماد مكلسن)، بشروده الدائم وعينيه الساهمتين، يمثل حالة عدم الرضا عن النفس حين يسأل زوجته آنيكا "هل أصبحت مملًا"، فتجيبه بعد تنهيدة: "نعم لم تعد تشبه مارتن الذي عرفته في السابق".
يجعل المخرج جواب آنيكا عتبة لفهم الأزمة، أزمة مارتن مدرس التاريخ الذي فقد شغفه، وكذلك أزمة أصدقائه المدرسين الثلاثة الآخرين.
خلال العشاء وبعد لحظة مكاشفة فجرها مارتن بشروده وعدم انسجامه وهو يتجنب شرب الكحول، يتطرق صديقه مدرس علم النفس نيكولا إلى نظرية المعالج النفسي فين سكارديرو، التي تنص على أن البشر يولدون بنسبة كحول منخفضة في الدم (5%) فإذا واضبوا على شرب كميات مناسبة قد يجعلهم ذلك أفضل وأكثر استرخاء وانفتاحًا وموسيقية.
يلتقي تطبيق هذه النظرية الخمرية من قبل المدرسين الأربعة مع ايمان كيركجارد بأن "معظم الناس يعيشون طيلة حياتهم في الدائرة الجمالية"، حيث تكون الحياة بالنسبة لهم معادلة "إما أو". وتظهر نتائج التطبيق بشكل متفاوت على المدرسين الأربعة، لكنه إيجابي في الغالب يعيد إليهم الشغف بالعمل ويحفز الإبداع أكثر.
يتصاعد إيقاع الفيلم مع ارتفاع نسبة الكحول، لكن المخرج توماس فينتربرغ يحكم السيطرة عليه من خلال حركة كاميرته التي تكون ساكنة في لحظات الوعي، ويضطرب تركيزها وثباتها في لحظات السكر، لينقل بذلك خطورة احتمالية تحول التجربة الاجتماعية إلى إدمان مبرر.
يتجاوز "Druk" قوالب الوعظ ولا ينحسر في الرثاء، وعلى حسب تصريح توماس فإن الفيلم عبارة عن "مسح واستكشاف ليس فقط لتعاطي الكحول، بل أيضًا لما لا يمكن السيطرة عليه"، لأن الدنمارك، بلد الفيلم، لديها بعض من أعلى معدلات شرب المراهقين في العالم، وجد تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر في وقت سابق من عام 2020 أن الدنماركيين البالغين من العمر 15 عامًا يستهلكون من الكحول بما يقرب من ضعف المتوسط الأوروبي.
قوبلت الجهود الأخيرة لرفع الحد الأدنى لسن شراء الكحول من 16 الى 18 بمقاومة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن كبار السن يتذكرون تسمّم الشباب الخاص بهم باعتزاز شديد.
يحكم السيطرة على فيلمه "Druk" من خلال حركة كاميرته، التي تكون ساكنة في لحظات الوعي، ويضطرب تركيزها وثباتها في لحظات السكر
من بين أشد لحظات الأسى قتامة، يسحب توماس فينتربيرغ خيط البهجة ليرسم النهاية بلون غير متوقع، لكنه مرضي بشكل محبب، كما يصفها الناقد جيسيكا كيانغ إنه يبني خاتمة يضع فيها مارتن أخيرًا سنواته الأولى من رقص الباليه لموسيقى الجاز في استخدام بهيج بشكل غير متوقع، ويقترح أن الشرب في وقت لاحق من الحياة يشبه إلى حد ما الرقص في جنازة: فعل فوضوي ولكن شجاعة تؤكد الحياة في مواجهة إغراء العدمية".
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الحياة حلوة".. نعامات تطمس رؤوسها في رمال التفاهة
وهذه النهاية المبهجة غير المتوقعة ذات بعد شخصي، نتيجة لوفاة ابنة المخرج إيدا فينتربيرغ، التي كانت هي المحفز لأن يحول الأب/المخرج مسرحيته القديمة إلى فيلم، بعدما روت له قصصًا عن ثقافة الشرب لدى الشباب الدنماركي. كما أنه كان من المقرر ان تكون تمثل إيدا دور ابنة مارتن لكنها توفيت بحادث سيارة بعد أربعة أيام من بدء التصوير، حتى أنه جرى تعديل على النص لأجل ذلك لأن القصة في الأصل كانت "احتفال بالكحول قائم على فرضية أن تاريخ العالم كان سيكون مختلفًا بدون الكحول"، لكن بعد المأساة تمت إعادة صياغة النص ليصبح أكثر تأكيدًا على الحياة "لا ينبغي أن يكون الأمر متعلقًا فقط بالشرب. كان الأمر يتعلق بإيقاظ الحياة"، كما صرح فينتربرغ.
يجدر الذكر بأن الأسبوع الذي تلا الحادث تولى توبياس ليندهولم الإخراج، وهو مشارك أصلًا في كتابة الفيلم.
اقرأ/ي أيضًا: