تقتاتُ السينما، ككثير من الفنون، على ماضيها، تكرره من حين لآخر، وتزوره للاستلهام منه والبحث فيه عن قصص تستحق البعث. وهي تفعل ذلك بالانتقال العابر للثقافات واللغات، فتختار من الماضي ما تراه مناسبًا، لتعيد إنشاءه وإنتاجه في قوالب أقرب للزمن المضارع وأقدر على الوصول إلى ذوق المشاهد الحاضر. تقنيًا هناك أكثر من طريقة لذلك: remake أو reboot أو غيرها من خيارات الإحياء السينمائي لأفلامٍ سبق أن ظهرت على الشاشة الكبيرة.
فيلم Ghost in The Shell إنتاج مشترك لصناع سينما يابانيين وبريطانيين عن قصة خيال علمي ذات أبعاد فلسفية وأخلاقية وتكنولوجية عميقة
في هذه المقالة، أريد أن أتحدث عن مثال قريب على إعادة الإنتاج تلك، وكيف تؤثر وتتأثر بما تعيد إنتاجه. والمثال هنا: "شبح في الصدَفة"، ففي تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1995 عرض فيلم Ghost in The Shell في اليابان لأول مرة، بسيناريو مقتبس عن سلسلة "مانغا" تحمل نفس الاسم، وحقق نجاحًا أوصل مخرجه مامورو أوشي إلى منصات مهرجانات محلية ودولية.
فيلم Ghost in The Shell إنتاج مشترك بين صناع سينما يابانيين وبريطانيين عن قصة خيال علمي ذات أبعاد فلسفية وأخلاقية وتكنولوجية عميقة، جعلت الفيلم يرقى إلى مصافِ الأفلام السيريالية الجديرة بالمشاهدة والتحليل مرة بعد مرة.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "آخر أيام المدينة".. القاهرة الأم والبطلة المتعبة
تبدو القصة الأصلية في فيلم Ghost in The Shell مشتبكة العناصر، مليئة بالتفاصيل، مزدحمة بالمعاني، تشغف بال الناظر فيها إلى رسالتها البعيدة، إلى مرماها الأقصى، حيث الإمكان الواقعُ اليومَ أكثر من أي يوم آخر، بأن يصبح الإنسان والآلة كالشيء الواحد، وأن يكون المشترك بينهما ليس واجهة إلكترونية فقط، وإنما وعيًا وإدراكًا وإحساسًا.
يعالج فيلم Ghost in The Shell من منظور الذات، إشكال الهوية وسؤال الغربة داخل الجسد، ويبحث في علاقة العقل بالروح عبر محاورات نفسية في شخوص أبطاله. يرتفع وينخفض على وتر القصة التي يحكيها بإتقان رسومي لافت، باحثًا عن أجوبة على أسئلته المفترضة، يبدو في نسخته التسعينية فيلمًا عن الهوية، أكثر مما هو فيلم عن الوصول إلى الحقيقة، يبدو فلسفيًا أكثر مما هو بصري، ويتقن السيطرة على أدواته السينمائية ليصل إلى مبتغاه، رغم غرابة العالم الذي تدور فيه أحداثه.
يستخدم Ghost in The Shell المكان والزمان والصوت والرسم بتناسق لا يدع مجالًا للشك في أنه، على بساطته المفرطة، فيلم عظيم ومتقن. ويحمل أيضًا بين طياتِ مشاهده رسالة أخرى ذات أبعاد واقعية، عن علاقة المكان والإنسان، وكيف أن كلاهما امتداد للآخر وضامن لبقاءه، كيف أن الإنسان جزء من بيئته وترجمة للوسط الذي ينشأ فيه ويبدع، وأنّ المكان حاضن للناس، وخلفية دائمة لحياتهم وأيامهم وأحلامهم، في ثنائية عضوية، تبقي لطرفيها أملًا في التطور والارتقاء.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Kedi".. لقاء ممتع في عشق القطط وإسطنبول
ثم بعد اثنتين وعشرين سنة من الإنتاج الياباني الأول لفيلم "غوست إن ذي شل"، أعادت استوديوهات "باراماونت" الأمريكية بالتعاون مجموعة شانغهاي للأفلام إنتاجه، في نسخة واقعية هذه المرة من بطولة سكارلت جوهانسون، التي يبدو أنها مهتمة مؤخرًا بهذه النوعية من الأفلام، بعد ظهورها في فيلم Her و Lucy، قامت بدور الشرطية ميرا في نسخة 2017 من فيلم Ghost in The Shell.
وقد أحاججُ أن اختيار سكارلت كان موفقًا لأداء الدور، لكني أيضًا أحاجج أن بقية الفيلم كان خيبة حقيقة لي، رغم الإغواء البصري الجميل فيه، والاهتمام الدقيق بالتفاصيل السينماتوغرافية، وإعادة نسخ التصور السينمائي للفيلم الأصلي في قالب هولوغرامي حديث، إلا أن الاختلال في القصة واختلاف السيناريو كان مربكًا جدًا، وجعلني أشاهد فيلمًا مختلفًا، مختلفًا عن ما توقعته، ومختلفًا عن ما ظننت أنه يجب أن يكون.
يستخدم Ghost in The Shell المكان والزمان والصوت والرسم بتناسق لا يدع مجالًا للشك في أنه، على بساطته المفرطة، فيلم عظيم ومتقن
أدرك تمامًا أن الاقتباس لا يعني التقليد الأعمى للأصل، لكن أدرك أيضا أن الاجتهاد لا يعني الابتعاد كثيرًا عن المرجعِ الأساس، وفي النسخة الحية من فيلم Ghost in The Shell أو "شبح في الصدفة" بدا لي أن الشبح ذو خيال غير منطقي، والخيال على رأي آرمين مويلر في فيلم The International يجب أن يكون منطقيًا على عكس الواقع، ويجب أن يلتزم بخياليته تلك ولا يحاول كسرها، أو الهروب منها، وإلا فإنه يصبح دون قصد، ربما، فيلمًا آخر تمامًا، يجب أن يعاد النظر إليه من زاوية جديدة، غير زاوية الاقتباس، فهنالك حد أدنى للاقتباس يُبقي للأصل هويته، ويجعل للفيلم الأحدث هوية مشابهة، غير مختلفة تمامًا وغير مطابقة كليًا لما تقلّده، والفشل، نصيًا أو فنيًا، في تطبيق تلك المقاربة الدقيقة، يخرج الفيلم المعاد إنتاجه غريبًا، وغير مفهوم.
يمكن المحاججة أن طبيعة السينما التجارية اليوم، فرضت أن يكون فيلم Ghost in The Shell أكثر ديناميكية وحركة وتركيزًا على الجذب والإبهار والترفيه والإمتاع، من تركيزه على إعادة إيصال الرسالة الأولى، لكن يمكن الحِجاج أيضًا أن تحقيق كلا الأمرين كان ممكنًا. كان يمكن أن نرى الفيلم الأصلي بتقنية اليوم، وأن يبقى المعنى فيه كما هو، أصليًا، وغير متأثر بإكراهِ الزمن الحاضر.
اقرأ/ي أيضًا: