إذا بحثت على الإنترنت عن علاقة الأتراك بالقطط فإن العدد الهائل من النتائج التي ستظهر أمامك ستعطيك فكرة مبدئية عن حالة عشق وافتتان تحكم تلك العلاقة، ولكن المثير في الأمر حين تلاحظ أن أغلب تلك النتائج تعود إلى مكان واحد تقريبًا: إسطنبول.
إذا بحثت على الإنترنت عن علاقة الأتراك بالقطط فالنتائج التي ستظهر أمامك ستعطيك فكرة عن حالة عشق وافتتان تحكم تلك العلاقة
لعقود طويلة، استوطنت القطط الهائمة شوارع اسطنبول ومبانيها. ستجد إشارات وأحداثًا عن تلك القطة التي اختبأت بأحد مساجد أسطنبول الشهيرة للاحتماء من البرد، أو ذلك الرجل الإسطنبولي الذي خصّص بيته لتربية القطط، أو هذين الزوجين اللذين أقاما حفل زفافهما بحضور قططهما الحبيبة، أو تلك اللفتة من باراك أوباما أثناء زيارته لتركيا في 2009 حين لاطف قطة تعيش في متحف أيا صوفيا.
وحتى أورهان باموك نفسه كتب باستفاضة وحب عن قطط إسطنبول في كتابه الهام والممتع "اسطنبول.. الذكريات والمدينة". ما الذي نستنتجه من ذلك؟ إسطنبول تحب القطط.
المخرجة التركية سيدا تورون، ابنة مدينة اسطنبول، ورثت هذا الحب وقررت توثيقه في باكورتها الإخراجية، "كيدي" أو Kedi، وتعني قطة في اللغة التركية، وهو فيلم يتابع الحيوات الملونة لقطط اسطنبول ومحبيها من سكان المدينة، في ما يمكن اعتباره "رؤية بعين القط" لحيوية وصخب اسطنبول وللفضاء الحضري والبيئة النفسية والاجتماعية للمدينة نفسها.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "آخر أيام المدينة".. القاهرة الأم والبطلة المتعبة
التآلف مع فكرة وجود القطط في كل مكان بالمدينة يوفّر نظرة مثيرة على أحوال مدينة عتيقة لا تسلم من التغيير الذي يطال سكانها وجغرافيتهم البشرية. "كيدي" أحيانًا سياحي، وأحيانًا وثائقي، ولكن يميّزه استخدامه وجهات نظر مختلفة مع حوار في حدّه الادنى، وتحوّله بسلاسة بين وجهات نظر البشر والقطط ممن يعتبرون المدينة بيتهم ومأواهم.
تُعرف اسطنبول بأنها عاصمة قطط الشوارع العالم، وهي بالتأكيد مكان مثالي لحمل ذلك اللقب كونها مدينة سياحية ممتدة ومزدحمة بحوالي 15 مليون نسمة وتملك عددًا من الشوارع والأزقة التاريخية الرائعة. نرى المدينة من خلال عيون شخصيات الفيلم الرئيسية، وهي 7 قطط مشاكسة من مختلف أنحاء المدينة لكل منها حكاية خاصة به وشخصية فريدة:
دومان وبنجو ودينيز وغامزيز وأصلان وسيكوبات وساري. القطط أبطال الفيلم، ولكن على نفس قدر أهميتها يأتي عشاقها الذين يعكس حديثهم كيف تؤثر القطط في حياتهم وتتداخل في تفاصيلها اليومية.
أثناء ارتشاف أكواب الشاي، يمضي الصيادون والحرفيون والفنانين وأصحاب المتاجر والمحال في حديث عن علاقتهم بتميمة المدينة: بعض القطط ساعدت سكان البلد في أوقات صعبة، وبعضهم حصل على رفقة هادئة، البعض تحدث باستفاضة عن اتصال روحي عميق معهم، والبعض الآخر يحرص على تحديث قائمة الأطباء البيطريين القريبين في المنطقة.
مغر للغاية اختصار "كيدي" ووصفه بأنه "وثائقي عن القطط"، ولكنه بالفعل ليس "كيوت" بتلك الطريقة التي تتيح إدراجه تحت هذا الوصف الاختزالي. فالعلاقة بين سكان المدينة وقططها قلبية أكثر منها سنتمنتالية أو مجانية.
قطط "كيدي" ليست قططًا وحسب، بل هي أيضًا مجازات للطبيعة المتغيرة لاسطنبول (وتركيا نفسها كأمة متآلفة)، وللحافظين والمذكّرين بالتاريخ العثماني لمدينة كانت يومًا ما ملتقى لمختلف الشعوب والأديان والأعراق.
تعرف اسطنبول بأنها عاصمة قطط الشوارع العالم، وهي مكان مثالي لحمل ذلك اللقب كونها مدينة سياحية ممتدة ومزدحمة بحوالي 15 مليون نسمة
"كيدي" يحاول أيضًا تجاوز الانطباع الأول عنه كمجرد شريط احتفالي تبسيطي عن فتنة وقبول الحيوانات الجميلة لدى كثيرين، فينسج سرديته البسيطة حول الطرق الماكرة والبالغة الرقة التي تتلمّس بها القطط حياة الناس من حولها، فلسفيًا وروحيًا.
على سبيل المثال، في حديث صحفي للمخرجة، عبّرت عن دهشتها البالغة من استجابة واستيعاب القطط التي اكتشفتها أثناء تصوير مشهد الختام عند غروب الشمس على اسطنبول، حيث كانوا يصوّرون أعلى سطح بناية ومعهم القطط، وقفز أحدهم ووقف بجانب الشمس وهي تغرب ونظر للكاميرا بطريقة أبهرت فريق العمل، بل وجعل المخرجة تتخذ اللقطة ملصقًا دعائيًا للفيلم.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فتضيف المخرجة أنها داعبت القط وسألته إذا كان يمكنه القيام بذلك مرة أخرى، فقفز الكائن الشقي مرة أخرى في نفس المكان وأعاد نظرته للكاميرا. أمور مثل هذه قد تخلق انقسامًا لدى الجمهور، فالبعض يرمي نفسه عميقًا في اتجاه "الأفورة" وإلباس الموضوع أكثر مما يحتمل، والبعض الآخر قد يجد الأمر كله مبتذلًا ويحتوي بعضًا من "المُحن"، ولكن التعامل مع الفيلم بدون توقعات كبيرة سيضمن مشاهدة آمنة تنجو من الانحياز والانحياز المضاد.
اقرأ/ي أيضًا: إعادة نظر: فيلم"تحقيق عن الجنة".. السؤال النسوي حينما يكون لصالح المجتمع
من الأمور الجديرة بالملاحظة كذلك في الفيلم، أنه يبين للمشاهدين تأثير عمليات التحديث والتجديد وإعادة التطوير وتناقص أعداد ومساحات الأماكن العامة الطبيعية، وكيف يجعل هذا من المدينة مكانًا أقل إحسانًا وطيبة تجاه ساكني شوارعها. "نحن قلقون بشأن ما سيحدث للقطط أكثر من قلقنا بما سيحدث لنا"، يقول واحد من سكان إحدى المناطق المقررة ضمن خطة إعادة التطوير، "إذا هُدم هذا الحي، لن يكون لدى القطط أي شخص".
هدم المناطق القديمة لصالح إقامة المشروعات السكنية الفاخرة قد يكتب نهاية واحد من ملامح إسطنبول الأساسية، العلاقة الوطيدة بين القطط والبشر. يقول أحد السكان لكاميرا تورون إن "القطة في اسطنبول أكثر من مجرد قطة، فهي تجسد الفوضى التي لا توصف، والثقافة، والتفرد الذي هو اسطنبول". هذه العلاقة الأكبر من أن ينطق بها، تمتد إلى الماضي العثماني للمدينة، أثناء دورها السابق باعتبارها نقطة وصل تربط قارتي أسيا وأوروبا، حيث تُجلب القطط من جميع أنحاء العالم إلى المدينة على ظهر سفن البضائع.
المخرجة التركية سيدا تورون، ابنة مدينة اسطنبول، ورثت حب القطط وقررت توثيقه في باكورتها الإخراجية، "كيدي"
باختصار، "كيدي" وثائقي جميل وبسيط لا يهدف سوى تقريبنا من بعض هذه الكائنات المشردة والهائمة التي تجوب الشوارع وأحواض بناء السفن في مدينة جميلة مثل اسطنبول، ليمنحنا نظرة مقربة ولا تخلو من الحميمية لتلك القطط واسعة الحيلة وعلاقتها اليومية بأصحاب المتاجر وعمال النظافة والمراكبية وآخرين من المقيمين والعابرين ممن يمدون أيديهم إليها بالطعام.
في بعض الأحيان تنزلق الكاميرا على طول الشوارع والأزقة لتكون على نفس مستوى القطط، وفي أوقات أخرى ترتفع إلى الآفاق الرائعة لأجمل المدن التركية لتطل عليها. ليس هناك أكثر من ذلك، سوى موسيقى مصاحبة لافتة، تضم العديد من الأغاني التركية، تجعل الفيلم سهلًا على العين والأذن وشديد الجاذبية كفيلم سهرة لنهاية الأسبوع أو لتمضية وقت لطيف، خصوصًا بالنسبة لعشاق القطط، أو لعشاق اسطنبول.
اقرأ/ي أيضًا: