"نحن ملوك نحكم شعوبًا إلاّ أن العائلة تستنفدنا"، ربما يكون هذا الاقتباس الذي جاء على لسان ملك فرنسا الكهل المهزوم في حربٍ لم يخترها، أمام ملك إنجلترا الشاب، كاشفًا عن منطق العقلية الملكية مهما كانت عادلة، ومهما كان الملك منحازًا للشأن العام أكثر من انحيازه لأحواله الخاصة. وإذا أردنا الوقوف عند العبارة وقتًا أطول، يمكن جعلها عبارةً تعريفية لحال كل حاكم دولة أو ملك في وقتنا الحالي.
من معالم النصوص الشكسبيرية الظاهرة في فيلم "The King" حضور الأجواء العدائية بين أفراد العائلة الواحدة، المرتبطة بالثأر والإرث
بدأ عرض الفيلم الأمريكي المنتظر "The King" للمخرج الأسترالي ديفيد ميشود، على شبكة نتفليكس منذ بداية هذا الشهر، بعد مشاركته في مهرجان فينيسيا خلال دورته الماضية، وكما بات معروفًا فشهرة الفيلم جاءت من مشاركة الممثل الفرانكو أمريكي تيموتي تشالاميت في أداء دور الملك هنري الخامس، فالممثل الشاب بعد ترشحه لأوسكار أفضل أداء العام الفائت، على أثر مشاركته في فيلم نادني باسمك، صار واحدًا من نجوم أفلام الدراما المحبوبين في العالم.
اقرأ/ي أيضًا: "Marriage Story".. تحفة سينمائية تمزق نياط القلب
اليوم نشاهد تشالاميت آخر في مكانٍ مختلف بعيدًا عن ذلك الريف الإيطالي، يعيش صراعات أخرى تأخذ شكلًا مضطربًا بعد أن أصبح الأمير الشاب هنري الخامس ملكًا على إنجلترا بعد موت والده الملك هنري الرابع، والذي ترك البلاد في فوضى وفسادًا كبيرين وحربًا ضروسًا. يرفض هنري الخامس في البداية أن تكون الحرب من خياراته، إلاّ مَلَكيته ريثما تتعسر بالمؤامرات التي تقوده إلى الحرب، كما أن الطريقة التي وصل من خلالها هنري الخامس للعرش حيث كان قبل موت أخيه غير مرشح وبعيدًا كل البعد عن أن يكون ملكًا، تجعل من أمر خوضه لتلك الحرب أمرًا محتومًا. كل تلك الأجواء نقلنا عبرها المخرج إلى أحداث حكايته التي تتطرق للحديث عن السلطة، التوريث والثقة.
اسم الشخصية والمعلومات القليلة التي نراها في بداية الفيلم تقودنا على الفور للتفكير بالنص المسرحي هنري الخامس لشكسبير، قد لا يكون الفيلم مأخوذًا عن مسرحية شكسبير هنري الخامس، يمكن اعتباره اقتباسًا حرًّا قام المخرج بالعمل عليه، واستلهم بعض الشخصيات من العوالم الشكسبيرية مثل شخصية صديق الملك هنري، جون فالستاف، والذي يمثل معادلًا شكسبيريًّا بامتياز لتلك الشخصيات المساعدة التي تقف إلى جانب البطل، كتب هذه الشخصية الممثل جويل إدجيرتون وقام بأدائها على نحوٍ مؤثر، إلى جانب مشاركته في كتابة سيناريو الفيلم.
من معالم النصوص الشكسبيرية الظاهرة في فيلم "The King" هو حضور الأجواء العدائية بين أفراد العائلة الواحدة، المرتبطة بالثأر والإرث، ولا تخلو من مخططات القتل وسفك الدم، من تلك التي تذكرنا بأجواء مسرحية ماكبث، وريتشارد الثالث.
لم يبتعد الفيلم كثيرًا عن حكاية المسرحية التي فيها تهكم كبير على التهور الإنجليزي، والتي تعتبر واحدة من المسرحيات التاريخية التي أراد من خلالها شكسبير في أواخر القرون الوسطى إعادة إحياء تاريخ إنجلترا عبر حكايات البلاط، قد يكون هدف المخرج أيضًا إلقاء الضوء على حياة الملوك في المكان عينه عبر الاستعارات التاريخية تلك، ولكن لكي نبقى بعيدين عن المقاصد ونعود مع هنري الشاب المتمرد ابن الملك والمحروم من الملكية، إلى القرن الخامس عشر الميلادي، حيث يجد الملك الجديد نفسه سريعًا أمام معضلة السيادة والشرعية، فيقرر أن يبدأ من معادلة الأعداء والأصدقاء. فيضيع عن اكتشاف أعدائه ويزج بأصدقاء في الموت، خلال المعركة التي خطط لها صديق الملك فالستاف وقائد الجيش، نجده عالقًا بين أجساد المحاربين المدرعة وكأنه يدفع ثمن تهور وطيش الملك وولائه له أيضًا، وتصبح كل المعادلات الأخلاقية على المحك، أمام ضرورة النصر في المعركة وتحقيق الاعتراف بالشرعية بالنسبة لهنري الخامس ومن حوله.
في واحد من الحوارات البديعة في فيلم "The King"، يقول صديق الملك إنه ما من أصدقاء للملوك، لديهم أتباع أو أعداء فقط
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Aftermath".. مصائر ما بعد الحرب
في واحدة من حوارات الفيلم الأكثر أهمية، يقول فالستاف في جوابه على طلب الملك خوض الحرب، يخبره بأن لا أصدقاء للملوك، فهم لديهم أتباع أو أعداء فقط. وهذا يدور حول واحدة من أفكار الفيلم الجوهرية، وأزمة هنري الخامس على وجه التحديد التي يجد نفسه بمواجهتها.
لا بد وأن واحدة من مشاكل الملك الصغير هي الثقة، ووجود أصدقاء حقيقيين يفهمون توجهه نحو الإصلاح السياسي أكثر من ميله نحو شن الحروب ضد الممالك الأخرى، هنري الذي يكن العداء لوالده ولفكرة أن يكون ملكًا يجد نفسه بعد التتويج مضطرًا لخوض حرب لم يقررها، نتيجة أكاذيب وخطة قتل وهمية وضعتها الكنيسة أمامها. تتجلى مخاوفه وقلقه في الحوار الأخير الذي يقوله لزوجته الأميرة الفرنسية التي تزوجها بعد كسبه للمعركة ضد الفرنسيين، فتخبره هذه الغريبة بالحقائق، وتكشف له كل ما خفي عليه، فيُرد بأن ما أقدم عليه لم يكن إلّا رعونة وطيشًا، وبذاك تكشف عن مؤامرة كان رئيس الأساقفة قد دبرها لدفع الملك إلى شن تلك الحرب، باعتبارها كانت حلمًا من أحلام والده الملك المتوفى.
رؤية المخرج التي وضعتنا أمام الملك المتحضر لاستلام العرش، وتهيئته للعبور من مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ، تتقاطع في بعض جوانبها مع تلك الرؤية التي أرادت المخرج الأمريكية صوفيا كوبولا تقديمها في فيلمها التاريخي ماري أنطوانيت، لمعالجة إشكالية فهم الشخصيات الملكيّة لدورها، بالإضافة لأهمية وطقوسية ما يمثلونه، لربما بعد حرب نفسية إثر طيش غير مبرر قاد ماري أنطوانيت إلى الهلاك، على خلاف ذلك قادت المؤامرة هنري الخامس لأن يصبح رجلًا أكثر حكمة أمام الزمن وأمام الدماء المسفوكة، ساعدته على تكريس اسمه بعد تلك المعركة، ولكن هذا غير كافٍ فالدرس لم ينتهِ بعد.
في فيلم "The King"، واحدة من مشاكل الملك الصغير هي الثقة، ووجود أصدقاء حقيقين يفهمون توجهه نحو الإصلاح السياسي أكثر من ميله نحو شن الحروب
حمل الجانب السينماتوغرافي في فيلم "The King" عبء بعض مقولات الدراما، وهذا يحسب للفيلم، كونه يحتوي على مشاهد جموع بشرية تخوض معارك، ولتلك المشاهد بالذات أهمية كبيرة فيما تريد إيصاله من الحكاية، مثل مشهد حصار القلعة بعد وصول الجيش الإنجليزي إلى فرنسا وقذف القنابل المشتعلة خلال الليل، أمام استسلام كامل من الفرنسيين، لنتبين لاحقًا بأن مفاجأة الطرف الآخر وعدم توقعه للمعركة كانت سببًا في تكرار مشهد رمي القنابل، ويُذكر أيضًا وخلال القتال الدائر بين الطرفين في السهل، يعلق صديق الملك وقائد جيشه وسط الجموع المتدافعة في إشارة إلى أن المؤامرة التي دفعت الملك لخوض تلك المعركة خسرته في المقابل الشخص الوحيد الذي يثق به. تجدر الإشارة أيضًا إلى الموسيقى الدرامية التي ساهمت في إظهار أجواء نفسية مضطربة تعيشها ملكية هنري الخامس، قام بتأليف موسيقى الفيلم نيكولاس بريتل الذي سبق له وألف هذا النوع من الموسيقى التي تخدم الدراما في فيلم Moonlight
اقرأ/ي أيضًا: كاريل سترويكن.. ممثل بأدوار غريبة
يستمتع مشاهد فيلم "The King" بالحكاية التشويقية التي تبلغ ذروتها الدرامية عند قرار الملك خوض تلك المعركة، وتتبعها ذرى أخرى متتالية خلال سرد أحداث المعركة، بكل ما فيها من مكاسب وخسارات، ويستمتع أيضًا بأداء الممثل تيموتي تشالاميت الذي يقدم أداءً مختلفًا عن كل ما سبق وقدمه في أعماله الماضية.
اقرأ/ي أيضًا: