في الثاني من آذار/مارس سنة 1757 كان داميان مجرمًا مدانًا في جريمة مقتل أبيه، حيث يجب أن يسحب ويقاد في عربة عاريًا إلا من قميصه، حاملًا مشعلًا من الشمع الملتهب، وزنه قرابة كيلوغرام، وفوق منصة الإعدام التي ستنصب هناك، يجري قرصه بالقارصة في حلمتيه وذراعيه، ركبته وشحمات فخذيه، على أن يحمل في يده اليمنى السكين التي بها ارتكب الجريمة المذكورة، جريمة قتل أبيه. ثم تحرق يده بنار الكبريت.
يحكي فيلم "حياة الآخرين" عن ألمانيا الشرقية تحت الحكم الشيوعي في ثمانينيات القرن الماضي، عارضًا قصة المراقِب الذي تعاطف مع مراقَبيه
وفوق المواضع التي قرص فيها يوضع رصاص مذاب، وزيت ساخن، وقار صمغي حارق، وشمع وكبريت ممزوجين معًا، وبعدها يفسَّخ جسده وتمزق مفاصله بواسطة أربعة أحصنة، ثم تتلف أوصاله وجسده بالنار، حتى تتحول إلى رماد يطير في الهواء".
هكذا يبدأ ميشيل فوكو كتابه "المراقبة والعقاب: ولادة السجن"، منطلقًا من هذه القصة في تشريح أركيولوجي للتطور الذي حدث بتقنيات المؤسسة العقابية، كيف انتقلت من تقنية الإنسان المعذب علنًا بمباركة المجتمع والدولة والمؤسسة الدينية إلى تقنيات أقل عنفًا وأقل عداءً للجسد، تكرس مفهومًا مباركًا آخر للإنسان المنضبط.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Lady Macbeth" والتمرد حين يشرع أبواب القتل
حياة الآخرين
يحكي فيلم حياة الآخرين أو "The Life of Others" عن ألمانيا الشرقية تحت الحكم الشيوعي في ثمانينات القرن الماضي، عارضًا قصة المراقِب الذي تعاطف مع مراقَبيه. وايسلر هو الضابط الصارم الذي نراه في المشاهد الأولى من الفيلم يعطي محاضرة لطلابه عن كيفية استجواب من سماهم" الأعداء".
"أعداؤنا متعجرفون". "السجين البريء سيكون غاضبًا بمرور ساعة بسبب الظلم الذي يعانيه"." المذنب سيصبح أكثر هدوءًا وسكينة"." الذين يقولون الحقيقة يمكنهم إعاة صياغة الكلام.. أما الكاذب فلديه جمل معدة سلفًا".
وعندما يعترض أحد الطلاب على الطريقة اللاإنسانية في استجواب المتمهين لساعات طويلة، يضع وايسلر علامة خطأ على اسم الطالب بقلمه الذي يحمله دائمًا لكتابة التقارير وتدوين الملاحظات والأسماء، والشطب على كل من حمل ولو اعتراضًا صغيرًا ضد الحزب وأعضائه.
فيما يكون جورج دريمان كاتبًا ومخرجًا مسرحيًا موثوقًا به من قبل السلطة، بل ومحتفىً بأعماله التي تؤمن بالحزب والقيم الاشتراكية والطبقة العاملة، إلا أن كل ذلك ليس كافيًا بالنسبة لوايسلر، فالجميع لديه شيء يخفيه يستوجب وضعه تحت عدسة مكبرة ومراقبة أفعاله. مع ذلك ورغم كل المعايير المتكلفة لدى المراقِب وايسلر تفضي عملية المراقبة لتيمة رومانتكية يجنح فيها الضابط تدريجيًا للتعاطف مع المراقَب (عالم جورج دريمان وحبيبته وأصدقائه).
تظهر الفكرة الأساسية للفيلم بالمشهد الذي يعزف فيه جورج دريمان جزءًا صغيرًا من أباسيوناتا بيتهوفن ثم يقتبس لينين ويقول: "لو بقيت استمع لبيتهوفن لما أكملت الثورة". ثم يظهر وايسلر في اللقطة التالية أثناء عملية المراقبة وهو واضعًا السماعات على أذنيه ويبكي!
هذا التغير الكبير بين وايسلر الضابط الذي يشبه آلة لتنفيذ نظريات ورؤى الدولة ووايسلر الذي يبكي عندما يسمع بيتهوفن، هو ما يود فيلم "The Life of Others" طرحه، في انتصار للفن والحب على القيود والسلطة، وبرغم أن هذا التحول بشخصية وايسلر ظهر ساذجًا ولم يكن مقنعًا لي في الحقيقة لمجرد التخديم على تيمة الفيلم، إلا أنه بالابتعاد خطوة للوراء وتجاهل تلك التيمة يمكننا أن نجد شيئًا مميزًا بفيلم "The Life of Others".
ونحن أقرب إليك من حبل الوريد.. اللاوعي كسلطة
رجوعًا إلى فوكو فقصة فيلم "The Life of Others" هي الضد من قصة دميان أو بالأحرى هو الفصل الأخير من تقنيات العقاب، فبالرغم من تلك الصرامة التي يبدأ بها الفيلم وبالرغم من كم الانتهاكات الجسدية المسجلة تحت الحكم الشيوعي تاريخيًا، لا يتعرض الفيلم لهذا المنحى ولو لمرة وحيدة، في مقابل انحيازه الكامل منذ البداية لعرض آليات السلطة بعملية ضبط الأفكار.
هذا بالتحديد ما جعل فيلم "The Life of Others" مميزًا عن غيره، حيث يحلل السلطة في مرحلة تحول فارقة وانفصال عن موروثها التاريخي في التعامل الفيزيقي مع الجسد، بخفوت صوت الألم الجسدي لصالح تقنيات ضبط العقل.
يمكن اعتبار كل الثورات والمعارضة وتاريخ التمرد هي أحداث تخاطب وعي السلطة، فتضعها بصراع ضد نفسها
"هناك خمس أنواع من الفنانين.. رجُلك دريمان، من النوع الرابع، المتمركز بهوس حول الإنسان، لا يتحمل أن يكون بمفرده ودائمًا ما يتحدث ويحتاج لأصدقاء، النوع الذي لا يجب أن يذهب للمحاكمة، هو يعيش على ذلك. الاحتجاز المؤقت هو أفضل طريقة للتعامل معهم. بعزلة كاملة وإطلاق سراح غير محدد، بلا تواصل بشري طوال تلك المدة ولا حتى مع الحراس. معاملة جيدة، لا تحرش، لا اعتداء، لا فضائح، لا شيء ليكتبوا عنه فيما بعد. وبعد عشرة أشهر نفرج عنهم فجأة!
هذا الرجل لن يسبب لنا المتاعب بعد ذلك، وتعرف ما الجزء الأفضل بالأمر؟ أغلب الفنانين من النوع الرابع الذين تعاملنا معهم بهذا الشكل، لم يكتبوا أي شيء مرة أخرى، لم يرسموا أو يفعلوا أيًا مما كان يفعله الفنان، وذلك دون استخدام أي قوة، فقط هكذا كنوع من الهدايا".
هذا ما يقتبسه جروبتز (الضابط الأعلى رتبة) على مسمع وايسلر، من رسالة دكتوراه لأحد طلابه بعنوان "ظروف السجن للفنان المخرب؛ وفقًا للسمات الشخصية" مسقطًا ما تناوله الباحث على حالة دريمان.
تتجلى هنا فكرة مختلفة: هذه السلطة على عكس ما كان يحدث في الماضي لن تكتفي بالتعامل مع العقاب بوصفه تخويف المنحرف عن القانون، بل إنها تحاول حل محل لاوعيه ذاته لتحدِّثه من مكان أكثر تخفٍ وتماهيًا مع نسيج الجسد نفسه.
تحضر بذلك السياق مفارقة أنه خلال هذه الحقبة التي تدور بها أحداث الفيلم كانت تمر الفلسفة أيضًا بحقبة ثورية لتنفصل هي الأخرى عن موروث تاريخي كان مهمة الفيلسوف فيه خلق (المفهوم) وإنتاجه، المفهوم الثابت لبناء رؤية كبرى للإنسان وموقفه من العالم، بينما جاءت فلسفة ما بعد الحداثة رافضة -عند فوكو مثلًا- تسمية نفسها بالفلسفة من الأصل، منحازةً لقيمة اللاإطلاق والتأويل ومنفتحةً على تقنيات فكرية تمزج الفلسفة بالفن. حتى أننا نجد كتاب "المراقبة والعقاب" نفسه بادئًا بعرض لوحات من الفن التشكيلي لآلات عقابية قديمة أو طرق تحيات عسكرية وطقوس للانضباط وغير ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Incendies".. حرائق الحرب الأهلية التي لا تنطفئ
هذه القطيعة الفكرية مع الحداثة بمفاهيمها الثابتة تضادت بالتأكيد مع ترسباتها التي لا كانت لا تزال راسخة بدولة كألمانيا الشرقية، حيث لم تكتفِ السلطة بملكية وسائل الإنتاج، بل تحولت أيضًا مالكة وحيدة لإنتاج (المفهوم) وتثبيته.
السلطة المؤنسنة
عندما نقرأ قصة داميان ونقارنها بما يحدث في فيلم "The Life of Others" لا يمكن لنا أن ننكر التطور، حيث تحاول السلطة حتى مع ذلك التوغل أن تكون أكثر رحمة وأخلاقية وأقل عنفًا، وبالتأكيد أحدث ذلك تطورًا إنسانيًا هامًا باحترام حياة الآخر وجسده، لكن ربما تلك هي المشكلة الجديدة، حيث تحاول السلطة أن تهرب من الخزي المصحوب بماضيها لمكان آخر هي فيه مؤنسنة بشكل أكبر.
بالتالي ينتفي عن السلطة وصفها بالسلطة الشريرة وتحافظ على هوية جديدة لا ينفصل فيها ما هو ضابط عما هو إنساني من وجهة نظرها، فتكتسب -بالرضا عن نفسها- أحقية جديدة لممارسة دور تربوي على المُراقَب باعتبارها تملك له الخير. هذه السلطة الإنسانة لديها هي الأخرى وعيًا ولاوعيًا تحاول فيه أن ترضى عن ذاتها وتبرر لنفسها ما تريده وتقوم به، ولتحقق ذلك الرضا، تتحول من مجرد (قوة) إلى إنسان رمزي يمارس فعل الضبط على نفسه أيضًا! ويحيلنا ذلك لتأمل ما يمكن تسميته سيكولوجيا المراقِب في ضوء أدواته، هل يظل المراقِب بعيدًا عن مجال عدسته المكبرة؟
تحتاج الإجابة على هذا السؤال، العودة إلى سؤال ساذج قليلًا هو لماذا يراقب المراقِب؟ ما الذي جعل وايسلر يتحمس لمراقبة دريمان من البداية بل ويستمر بالأمر؟
الإجابة أن وايسلر كان يبحث عن بعض التسلية، فكاميرا المراقبة دائمًا ما تبحث عن "الحدث" بل وتستمد منه هويتها كسلطة ضابطة، حيث يمكن تخيل ثالوثًا للسلطة الحديثة لا تتحق إلا باكتمال أضلاعه؛ ما هو ضابط، وما هو إنساني، وما هو يحدث في الواقع. وطالما حضرت الأضلاع الثلاثة تظل السلطة في مأمن من أن تنفضح بأدواتها الخاصة، بعيدة لا ترغب بالتدخل في الأحداث حتى يقع الحدث المخالف للمعايير فتتخذ نحوه إجراء القوة، والعكس صحيح كذلك، إذ بكسر أحد الأضلاع تتعرض السلطة للخطر وفقدان الهوية.
هذا هو الشيء الغريب في تحول وايسلر لمتعاطف ومتدخل بالأحداث، إذ من المفترض أن هوية وايسلر مرتبطة بشكل أساسي مع فعل الضبط لكنه تخلى عنه وانحاز بشكل كامل لما هو إنساني دون مبرر كافٍ في قصة الفيلم خاصة مع توفر "الحدث" الخارج عن المعيار، الذي تتغذى عليه السلطة، ما يجعل وايسلر طفرة ربما وعت -على عكس المعتاد- أن فعل الضبط ممارسٌ عليه أيضًا، لذلك تدخل بالأحداث محاولًا تغيير مصير نفسه كمضبوط لا مصير الكاتب وأصدقاءه كما يظهر للوهلة الأولى، وبذلك انتفت عنه صفة السلطة وأصبح إنسانًا عاديًا.
لا تحاول السلطة التقليدية أن تنازع سلطة الضبط الاجتماعي، بل تثمن هذا الدور وتقتنص كل الفرص الممكنة لترسيخ مظاهر السلطة الأخلاقية
لكن بدراسة وايسلر يمكننا أن نتساءل: هل للمُراقَب أيضًا أن يتدخل بلاوعي السلطة؟
يمكن اعتبار كل الثورات والمعارضة وتاريخ التمرد أحداثًا تخاطب وعي السلطة، فتضعها بصراع ضد نفسها إذ إنها مسؤولة عن ضلعي الضابط والإنساني فيما يكون المُراقَب نفسه هو المسؤول عن الضلع الثالث: صنع الحدث.هكذا يستمر المراقَب بصنع أحداث تتفاوت أهميتها ومدى خروجها عن المعيار حتى تضيق السلطة عليه الخناق فيصنع حدثًا يحرج السلطة أمام ذاتها فيتصارع فيها الإنساني مع الضابط، رغم ذلك فالمراقَب يبقيها سلطة شرعية متحققة. كنوع من التواطؤ مهما اختلفت أفكار القائم على السلطة يمينًا أو يسارًا لما يعود بذلك عليه من منفعة.أما إذا ضغطت السلطة لترويض المراقَب بشكل ينفي حريته وإمكانيته في صنع الحدث، فإنه قد يرضخ للسلطة، لكنه بهذا الرضوخ يضع فخًا للاوعي المراقِب، يوهمه بالسيطرة عليه في حين أن ذلك ينفي عنه صفة الضبطية، مهددًا هويته فيضطر المراقِب بالتدخل لصنع الحدث بنفسه، وبالطبع ذلك الحدث –في ظل صمت المراقَب- سيجنح على الأغلب لمزيد من القيود حتى ترجع السلطة إلى ماضيها المتوحش والعنيف، ليكون ذلك حدثًا مضادًا لمعاييرها نفسها.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Gifted".. ما النافع إذا خُلّد اسمك ومت وحيدًا؟
هذا الأمر على امتداده سيكسر الثقة والتواطؤ الذي أعطى المراقَب فيه حقًا للسلطة عليه، فيعي في تلك اللحظة حقه أن يرد العنف بالعنف، وتنتهي السلطة كمحتكر للقوة. هكذا تصبح الحريات ضرورة ليست بصالح المراقَب فحسب، بل لماهية السلطة ذاتها حيث تبقي بها الحدث من صنع صاحبه فتحافظ كنتيجة لذلك على الدور المنوط بها أن تؤديه.
السلطة فوق المؤنسنة.. السوشيال ميديا نموذجًا
أما فيما بعد استسلام السلطة للقبول بالحريات، تصبح الدولة مجرد حامٍ للحدود الفردية، ويمثل ذلك هزيمة رمزية للسلطة كـ"إنسان" يحمل رؤية قيمية ومنهجًا تربويًا تجاه محكوميه، وبتراجع سيطرة الدولة على هذا الجانب ينتقل -بمباركة السلطة أيضًا- إلى شبكة العلاقات الاجتماعية كضابط جديد للأفكار.
ولا تحاول السلطة التقليدية بتلك اللحظة أن تنازع سلطة الضبط الاجتماعي، بل إنها تثمن هذا الدور وتقتنص كل الفرص الممكنة لترسيخ أي مظهر من مظاهر السلطة الأخلاقية بتكنيكات قد تختلف بالتأكيد حسب ثقل التجربة الديمقراطية للدولة، لكن ذلك الدعم المخفي يظل موجودًا حتى مع أكثر الديمقراطيات قدمًا.
ورغم هذه الهزيمة إلا أنها تمثل لحظة ارتياح لدى السلطة التقليدية نتيجة ظرف جديد تعي فيه أن مسؤوليتها عن الضبط القيمي كمسؤول وحيد هو شيء مكلف، يعرض هويتها للخطر، إذا ما حدث أي خرق لمنظومة القيم، لذلك تتخلى عن جزء كبير من هذا الضبط، في مقابل ألا تتحمل المسؤولية وحدها فيما بعد.
شبكة العلاقات الاجتماعية هذه، تخلق سلطة مفاهيم أكثر تنويعًا، وترتضي مفهومًا خاصًا عن كل فعل اجتماعي بما يناسب القيم الأكثر تأييدًا بين الأفراد، وحتى لو تقبلت في خطابها الرسمي خروجًا عن هذا المفهوم إلا أنها تحرص على خلق تواطؤا لا واعيًا يثمن تلك القيم التي تتبناها الأغلبية، بل والأسوأ أن يتفرع من هذا المفهوم المحبذ عن الجنس أو الفن أو الحب أو ما شابه، مفاهيم أخرى عن الجنس المختلف والفن المختلف والحب المختلف تكرسها الأقليات!
هكذا يمكن تخيل كل مفهوم كدائرة تحتوي الذين ينتمون إليه، ووسط هذه الدائرة، الجميع بحالة ترصُّد لأي اختلاف عن المفهوم المعتمد. حيث لا يرغب أحد في النفاذ لفهم هذا المستوى من التواطؤ، هربًا من انكشاف تورطه في عملية الرقابة كضابط ومضبوط لذلك يلعب دوره بجدية كاملة محاولًا كل جهده ألا يقع في مجال الرصد.
سكرول داون لايك ريفريش
يظهر ذلك بشكل أوضح في السوشيال ميديا، إذ يكون موقع كفيسبوك مثلًا مصممًا بحيث يضعك في دائرة الأشخاص الذين يشبهونك فكريًا، وبذلك يظهر المختلف كنقطة سوداء على ثوب أبيض واضحة ومعظمة ومقهورة، والأهم أن السوشيال ميديا تعفيك من عقدة الذنب، بأن تسقط المسؤولية عن عاتق الجميع وتحملها قوانين الآلة. فأنت مجرد "حساب" على السوشيال ميديا وتلك هي القوانين، تستطيع أن تغلق التعليقات أو تغلق حسابك أو تختفي من هذا الوجود الافتراضي أو تذهب للجحيم إذا شئت، في النهاية أنت هنا مجرد افتراض.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الملك آرثر: أسطورة السيف".. غاي ريتشي التائه في عالم الفانتازيا
يصبح مستخدم السوشيال ميديا Gaze مراقِبًا ومراقَبًا وحدثًا بنفس اللحظة، إذ بمراقبة الشاشة وأثناء تأديته فعل المراقبة تنخلق لدى المستخدم رغبة في أن يراه هذا العالم أيضًا، أن يعجب به ويتطلع إليه، حيث يصبح ذلك هو "الحدث" المنتظر المحقق لسيطرة حقيقية من قبل المستخدم على هذا العالم، إلا أن تلك الرغبة لا تخلُ من خوف الوقوع تحت طائلة الرصد، فيحاول أغلب المستخدمين إرضاء دائرتهم، بالجلوس في الجانب الآمن حيث مقعد المراقِب، متخليًا عن حقه وتطلعه في صناعة الحدث، فيفقد المستخدم سلطته كمسيطر على حياته الاجتماعية ويقع تحت سلطة الضبط تمامًا كوايسلر، حيث نفس المخاوف والاكتئاب وانعدام الحرية.
لكن بهذه المرة تبارك السلطة إلغاء الحدث، وعلى عكس السلطة التقليدية تحافظ على مساحة الحرية وتدعمها إذ أن ذلك لا يهدد هويتها حيث لا هوية ثابتة لها من الأصل، بل مجرد تواطؤ مجتمعي يشترك فيه الفرد نفسه بلعب كل الأدوار.
يصبح مستخدم السوشيال ميديا مراقِبًا ومراقَبًا وحدثًا بنفس اللحظة
في النهاية أحب أن أختم باقتباس من الكتاب نفسه يتحدث فيه فوكو عن الـ Panopticon وهو بناء اقترحه جيرمي بنثام واستلهم منه فوكو رمزا لعملية المراقبة:
"إن panopticon بنثام هو شكل معماري لهذه التركيبة، ونحن نعرف المبدأ الذي بني على أساسه: بناءٌ حلقي، يتوسطه برج، هذا البرج مفتوح بنوافذ واسعة على الحلقة المقسمة إلى غرف معزولة، كل منها تمتد بعرض المبنى، ولكل غرفة نافذتان، واحدة تطل على الداخل المقابل لنوافذ البرج، والأخرى تطل على الخارج بحيث تتيح للضوء أن يعبر الغرفة.كل ما يلزم إذن أن نضع مراقبًا في البرج المركزي، ونغلق غرفة على كل مجنون أو مريض أو محكوم، على كل عامل أو طالب مدرسة.إن ذلك يشبه العديد من الأقفاص، العديد من المسارح الصغيرة، حيث يكون كل ممثل وحيدًا، منفردًا ومنظورًا بصورة دائمة، إن آلية عمل الـpanopticon باختصار تختلف عن مبدأ الزنزانة التقليدية ووظائفها الثلاث: الحبس والحرمان من الضوء، والإخفاء، فيحتفظ بالوظيفة الأولى ويستغني عن الوظيفتين الأخريين، فالضوء الكامل وعين المراقب تأسر أفضل مما يأسر الظل الذي قد يحمي في النهاية. إن الرؤية لهي فخ".
اقرأ/ي أيضًا: