تبدأ أوّل لقطات فيلم "M.I.A. A Greater Evil" للمخرج أبيشيك جاي باجاي بنشرات إخباريّة مُتلفزة تُعلن عن عودة الجنود الأمريكيين المحتجزين عند القوّات الفيتناميّة الشماليّة إلى بلادهم بعد الانسحاب الأمريكيّ سنة 1975. تليها نشرات مشابهة تنسف هذه المرّة الرواية الأمريكيّة وتؤكّد بقاء ما يُقارب أكثر من ألف جندي أمريكيّ في الأسر في غابات لاوس لأكثر من عشرين عامًا، وذلك بعد أن أدارت الحكومة الأمريكيّة ظهرها لهم. وبعد هذين المشهدين، يظهر جندي أمريكي يحاول الهرب والاختباء على وقع صوت رصاص واشتباكات تدور في غابة فيتناميّة، قبل أن يعترضه شخص ظلّ بعيدًا عن فتحة الكاميرا، ليغرس "منجل" في صدر الجندي.
يتناول إذًا أبيشيك جاي باجاي في فيلمه "M.I.A. A Greater Evil" قضية الجنود الأمريكيين المفقودين في فيتنام
بهذه المشاهد من فيلم "M.I.A. A Greater Evil"، لا سيما الأخير الذي يحبس الأنفاس، يُترك المشاهد في حيرة من أمره لجهة تمييز هويّة الفاعل، يبلور أبيشيك جاي باجاي الرسالة الرئيسيّة لفيلمه. ليفتح عدسة كاميرته بعد ذلك على حكاية تتشابك أحداثها بين الواقع والفنتازيا. ومن خلال اشتغاله على المزج بين هذين العالمين، يقدّم باجاج وجبة متكاملة من الرعب والإثارة والدهشة والتشويق الذي يصعد تارةً ويخفت طورًا، ذلك أنّ الخوف هو العنصر ذو الحضور الثابت في فيلم "M.I.A. A Greater Evil"، والذي طغى على بقية عناصره الأخرى.
اقرأ/ي أيضًا: سينما حرب فيتنام (1): ولِدَ في الرابع من يوليو
يتناول إذًا أبيشيك جاي باجاي في فيلم "M.I.A. A Greater Evil" قضية الجنود الأمريكيين المفقودين في فيتنام. وعلى الرغم من أنّ الفيلم ليس الأوّل الذي يتناول هذه القضيّة، إلّا ثمّة ما يُميزه عن سواه، وذلك ليس فقط لأنّ باجاي ضيّق من فتحة العدسة نحو الجنود المفقودين بشكلٍ خاصّ، دون الخوض في مفاصل الحرب كاملةً؛ بل لأنّه قدّم قضيتهم هذه ضمن شكل قدّم جديدًا فنيًّا لجهة الحكاية وسير أحداثها وبلورة فكرتها. مُستندًا في ذلك إلى المشاهد المتأرجحة بين الواقع والخيال من جهة، وبين عناصر التشويق والإثارة والرعب التي شكّلت، مجتمعةً، عملًا فنيًّا مبهرًا من جهةٍ ثانية.
يذهب بنا فيلم "M.I.A. A Greater Evil" إلى واحدة من الغابات الضخمة والواقعة بين فيتنام ولاوس وكمبوديا، حيث تدور أحداثه التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى؛ ثلاث طلّاب أمريكيين برفقة أستاذهم ذي الأصول الفيتناميّة يبحثون عن الذهب في النهر المُحاذي لشواطئ غابات لاوس. غير أنّ اصطدام قاربهم بصخور تظهر فجأة في النهر يُغيّر من مسار الحكاية وأحداثها. أو يضعنا إزاء حكاية أخرى مختلفة عن تلك الأولى التي ظهرت في الدقائق الأولى من النصف الأوّل للفيلم. هكذا، سوف يتغيّر هدف الأصدقاء الأربعة من البحث عن الذهب إلى الخروج من الغابة التي تحوّلت إلى متاهة كبيرة.
ومن خلال هذه المتاهة وما تتضمنّه من لحظاتٍ مخيفة ومثيرة، يبدأ أبيشيك جاي باجاي بالعمل على إيصال الرسالة الرئيسيّة للفيلم، وإخراجها إلى السطح لتبدو واضحةً للمشاهد، ذلك أنّ الغابة التي دخلها الأصدقاء الأربعة هي ملاذ أرواح آلاف الجنود الأمريكيين والفيتناميين المفقودين. سنكتشف ذلك من خلال مشهدٍ فانتازي يجمع بين الواقع والخيال من جهة، والحاضر والماضي من جهةٍ ثانية، وذلك حين تلتفي أنيتا "فاليري بينتسون" بجدّها الذي أُسقطت طائرته أثناء الحرب. المفارقة المثيرة في هذا المشهد أنّ الجدّ الطيّار، ورغم مرور حوالي 53 عامًا على انتهاء الحرب الفيتناميّة، لا يزال شابًا وكأن الزمن توقّف عند لحظة سقوط طائرته، منتظرًا، على مدار كلّ تلك السنوات التي مرّت، وصول فرق الإنقاذ والإغاثة لإنقاذه.
هكذا، ومع متوالية الأحداث التي تمرّ بالأصدقاء الأربعة وتسلب حيواتهم جميعًا، باستثناء أنيتا، نكتشف أنّهم فقدوا حيواتهم أساسًا في الدقائق الأولى من فيلم "M.I.A. A Greater Evil"، حين غرق بهم القارب في النهر. غير أنّهم، وكما كلّ الجنود العالقين في الغابة، يرفضون، لا إراديًا، فكرة أنّهم أصبحوا أمواتًا.
يؤكّد فيلم "M.I.A. A Greater Evil" أنّ قضيّة الجنود الأمريكيين المفقودين في فيتنام لا تزال هاجسًا بالنسبة لعوائلهم والمجتمع الأمريكيّ كاملًا
في المشهد الختاميّ في فيلم "M.I.A. A Greater Evil"، والذي وظّف فيه باجاي كلّ العناصر المثيرة للمشاعر، يُخبر الدليل أنيتا أن من يصل إلى الغابة لا يستطيع الخروج منها، وأنّه يصلها ميتًا ولكنّه غير مقتنعًا بذلك، وأن مهمّته، أي الدليل، إقناع هؤلاء بأنّهم أموات من خلال مطاردتهم وقتلهم مُستخدمًا مخاوفهم في ذلك. ولذا، مات الأصدقاء الثلاثة بما كانوا يخافونه، حيث مات جيس "مارك ماتولا" بفخ نصبه الفيتناميون أثناء الحرب، وستيف "لاموي فيساي" برصاصة فجّرت رأسه، ورايتشل "سارة بول" بلغم أرضيّ بتر ساقها. واستكمالًا لهذا المشهد الخياليّ، يلقي الدليل بمهمته هذه على عاتق أنيتا التي بدأ الجنود يتوافدون إليها من أجل إنقاذهم، لا من الموت، إنّما من الحياة المزيّفة التي توهّموا أنهم يعيشونها، منتظرين فرق الإنقاذ.
اقرأ/ي أيضًا: سينما حرب فيتنام (2): سائق التاكسي
يؤكّد فيلم "M.I.A. A Greater Evil" أنّ قضيّة الجنود الأمريكيين المفقودين في فيتنام لا تزال هاجسًا بالنسبة لعوائلهم والمجتمع الأمريكيّ كاملًا. كما أنّه يشير أيضًا إلى استحالة مسح الحرب الفيتناميّة وإفرازاتها من الذاكرة الأمريكيّة الجمعية. وأخيرًا، يبدو أنّه من غير الممكن مشاهدة الفيلم بمعزلٍ عن التطوّرات الإقليميّة الخطيرة في عالمنا.
اقرأ/ي أيضًا: