أرنوفسكي الذي لا يجيد دفن مشاعره إلا بكأس من السينما، كؤوسه في العادة شفافة للغاية. إنه ابن بروكلين وخريج هارفارد، ذو اللقطات الرملية وتقطيعات الهيب هوب السريع، يقرع أبواب السينما للمرة السابعة بعد عدة محطات كثيرة ناجحة أهمها: The Fountain, Black Swan, Requiem For a Dream، يأتي آخر أفلامه "Mother"، الفيلم الذي زعم أن عملية كتابته استغرقت 5 أيام فقط!
اعتمد أرنوفسكي الإنجيل أساسًا في بناء هيكل فيلم Mother، الأمر واضح من تجسيده لآدم وحواء في شخصيتي إيد هاريس وميشيل فايفر، وحادثة الفاكهة المحرمة
فيلم Mother الذي رفضت شركة "Warner Bros" إنتاجه بسبب مشهد "الابن"، المشهد الذي سبب الإعياء للكثير من المشاهدين حول العالم، لينتهي به المطاف بين يدي شركة "Paramount". امتنع أرنوفسكي عن إضافة أي نوع من الموسيقى التصويرية داخل الفيلم، واعتبر أنين وصرخات الشخصيات كافيًا لإشباع الحس السمعي لدى المتلقي.
لنستذكر أولًا مقابلة صحفية سابقة مع أرنوفسكي أشار فيها إلى أن الفيلم يتناول موضوع الإله والإنسان والأم (الأرض) وطبيعة العلاقة بينهم ومشاكل هذه العلاقة من التبجيل المتطرف الى الاحتباس الحراري، ومع أن هذا قد يبدو واضحًا من الوهلة الأولى، أو حتى واضحًا بشكل مبالغ، فإن ما سنفعله في هذه الدراسة هو تجاوز البعد السينمائي قليلًا والولوج إلى داخل شخصية أرنوفسكي باعتبارها الميكانيكية الأساسية لولادة الفيلم.
اقرأ/ي أيضًا: أرنوفسكي في Black Swan وهوس الوصول للكمال
تدور أحداث فيلم Mother حول زوجين يلعب دورهما كل من خافيير بارديم البطل وجينيفر لورنس البطلة، في علاقة تبدو شبه اعتيادية بين الزوجين -على الأقل لفترة محدودة من الفيلم- بأحاسيس ودوافع قد تتجاوز الحد الطبيعي وتتجه نحو الغرابة، خصوصًا بعد قدوم عابر سبيل، يلعب دوره إيد هاريس، لتختلف بعدها معايير العلاقات بين أطراف هذه الحكاية بشكل راديكالي.
لنتفق على أن أرنوفسكي قد اعتمد الإنجيل أساسًا في بناء هيكل فيلم Mother، الأمر واضح من تجسيده لآدم وحواء في شخصيتي إيد هاريس وميشيل فايفر، وحادثة الفاكهة المحرمة، وكذلك وجود قابيل وهابيل، واضح لدرجة تجاوزه للرمزية ودخوله مرحلة التلقائية بالاعتماد الكامل على الإنجيل، مما قد يفقد المشاهدين لذة انتظار الأحداث بعد استيعاب هذه الفكرة في النصف الأول من الفيلم.
لو افترضنا للحظة فقط أن كل الرموز الإنجيلية غير موجودة، فالنتيجة أن كل الأحداث ستكون إما أحداثًا عفوية بين الشخصيات أو رمزًا في حالة الأمور الخارجة عن المعقول، والرمز هنا هو بعيد عن الإنجيل تمامًا. فالتفكيك الرمزي لما بعد النظرة الإنجيلية لفيلم Mother تكمن في عدة رموز ومن أهمها:
1. البيت
البيت الذي يمثل العلاقة بين البطلة والبطل من وجهة نظر البطلة، وهنالك وفرة من الدلائل على هذا الأمر من أهمها افتتاحية فيلم Mother، عندما تقف البطلة على عتبة الباب تحدق خارج البيت (خارج هذه العلاقة) ثم يظهر البطل بشكل مفاجئ وعندها تقوم بسؤاله "أنت على وشك الخروج لمَ لم توقظني؟"، يجيبها البطل: "أردت أن أكون وحيدًا!". وبعد مرحلة العزاء مثلًا في الثلث الثاني من فيلم Mother، يظهر رجل يبدأ بمعاكسة جينيفر قائلًا "لديك منزل جميل! لم لا نخرج من هنا؟".
الأمر الغريب في علاقة البطلة والبطل هو فارق العمر بينهما كما أشارت ميشيل فايفر في ثلث الفيلم الأول، ومن ثم يطلب منها هذا الرجل أن يقوما بمغادرة المنزل خلسة (مغادرة هذه العلاقة والدخول بعلاقة جديدة)! لكن البطلة كعادتها ترفض أي شيء يمس زواجها طوال مدة فيلم Mother.
رفضت شركة "Warner Bros" إنتاج فيلم Mother بسبب مشهد "الابن"، المشهد الذي سبب الإعياء للكثير من المشاهدين حول العالم
وكذلك في الثلث الأخير من فيلم Mother وقبل الولادة، أثناء حدوث التدخلات العسكرية، تعاني البطلة من ضرر وألم بالغين بسبب الانفجارات، ويظهر البطل بشكل مفاجئ ويخبرها أنه سيأخذها إلى مكان آمن. هنا العلاقة في أسوأ أحوالها بين الاثنين، فتجيب البطلة: "هناك في الخارج، المكان آمن". يعود البطل قائلًا: "لا الوضع هناك خطير جدًا".
إذًا كل أعمال البناء التي تقوم بها البطلة هو بناء لهذه العلاقة، وكل أعمال التخريب التي تحدث بالبيت هي تدخلات خارجية تؤذي هذه العلاقة، والخروج خارج هذا البيت يعني الخروج من العلاقة أو الخيانة، وكل الجروح الحية التي تظهر على جدران المنزل هي مشاكل تحاول البطلة نسيانها عن طريق طلاء وإصلاح المنزل بشكل مستمر، وكل ما يظهر بالمرحاض هو تمثيل لعدم قدرة البطلة عن نسيان سبب ومعنى وجود هذه المشاكل، (كالأوراق الطبية الملطخة بالدماء على مغسلة الحمام مثلًا).
2. السائل الذهبي الذي تتناوله البطلة كلما أصيبت بألم
تصاب البطلة بآلام كلما شعرت بحقيقة مشاعر البطل، لنفهم معنى السائل الذهبي يجب أن نعرج على مسألة أخرى، وهي المهدئات، في الثلث الأول من فيلم Mother وأثناء قيام البطلة بصبغ المنزل تقوم ميشيل فايفر بسؤالها هل لديك أي مهدئات تجيبها بالنفي.
اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى مولده.. 5 أفلام للنجم ليوناردو دي كابريو نرشحها للمشاهدة
تعود فايفر قائلة: "هل تقولين الحقيقة؟" في مشهد لاحق تخبر فايفر البطلة أن الطريقة الوحيدة لاستمرار الزواج هي الأطفال، وحتى وجود الأطفال غير كاف لاستمرار العلاقة الزوجية، العلاقات العابرة أو السريعة خارج إطار الزواج كان هو الحل لاستمرار العلاقة الزوجية من وجهة نظر البطلة وهاريس.
وهنا يُستخدم الكحول في إشارة لعلاقة غير شرعية أو عابرة، لكن البطلة لا تشرب الخمر أبدًا، بينما البطل وهاريس وفايفر يرتشفونه بشكل اعتيادي، وإذا دققنا جيدًا سنلاحظ أن هناك حميمية في التعامل ستنشأ بين هؤلاء الثلاثة.
إذًا ماهو البديل للبطلة؟ فهي لا تقوم بعلاقات عابرة، إذًا كيف تواجه أعباء ومشاكل هذه العلاقة؟ وفي لغة الألوان اللون الذهبي هو رمز العطاء إذاً ما تشربه البطلة هو الشيء الوحيد الذي يبقيها معطاءة داخل العلاقة ومن المرجح جدًا أن الأمل هو المقصود. هو مجرد أمل، وأمل بغدٍ أفضل، وأمل في البطل أفضل، وأمل باستمرار العلاقة (مشهد المرحاض).
3. رمزية الجوهرة
في الثلث الأخير من فيلم Mother عند احتراق المنزل (العلاقة) والبطلة في داخله (النار هنا رمز للغيرة وهي نفسها التي قامت بحرق يد ميشيل فايفر في الثلث الأول وأثناء عملية احتراق الطعام في المطبخ، هي الوحيدة التي تتألم باعتبار أن البطل غير مهتم فعليًا بالعلاقة. وقبل أن تفارق الحياة يخبرها البطل: "تبقى أمر واحد يجب فعله " تجيب الزوجة: "نعم".
اقرأ/ي أيضًا: راسل كرو: لديّ نموذجي الأخلاقي الشخصي
يقوم عندها البطل بمد يده ليشق أنسجة صدرها وصولًا لمنطقة القلب ليخرج بجوهرة أخرى مطابقة لتلك التي قام عابر السبيل وزوجته بتحطيمها عرضيًا في الثلث الأول من الفيلم، وهنا السؤال: ما هو الشيء الوحيد الذي يبقي الزوجة حية لدى زوجها بعد مفارقتها الحياة؟ الجواب: ذكرى ذلك الشيء.
لاحظ أن البطل كمبدع (أو خالق) فإن أعز شيء لديه هي ذكرياته، ولذلك فهو مهتم دائمًا بالتحدث إلى الآخرين، لتخزين هذه الذكريات ويعيد بلورتها وخلقها كقصيدة، وكما هو ملاحظ من البوستر الرسمي للفيلم فإن البطلة تظهر وهي تهدي قلبها (ذكراها) وهو الشيء الوحيد الذي يرغبه الزوج من العلاقة، أما البطل في صورة أخرى ترويجية للفيلم، يظهر مبسطًا يده بوضعية استقبال هذه الهدية.
لماذا يحاول المخرج أرنوفسكي إخبار الجميع بأن الفيلم يتحدث عن الأرض والإله؟ الجواب بسيط جدًا: أرنوفسكي خالق -كما البطل- وهو يعتمد على ذكرياته في خلق أفلامه كما البطل
يبقى السؤال إذًا: لماذا يحاول أرنوفسكي إخبار الجميع بأن الفيلم يتحدث عن الأرض والإله؟ الجواب بسيط جدًا: أرنوفسكي خالق -كما البطل- وهو يعتمد على ذكرياته في خلق أفلامه كما البطل.
والكل يعلم بزواجه غير المستقر من رايتشل وايز الذي دام ما يقارب 10 سنوات، يليها الانفصال في عام 2010، ثم الارتباط حديثًا برايتشل وايز أخرى (البطلة).
سؤال آخر وأخير: لو كان أرنوفسكي قد كتب هذا الفيلم عن حياته الزوجية أو طبيعة علاقته بالجنس الآخر، هل تعتقد بأنه سيقوم بترويج فيلمه عن طريق إخبار الصحافة بأنه قد قام بكتابة وإخراج فيلم عن حياته الشخصية وعن زواجه، أم عنه في صورة فيلم يتناول العلاقة بين الأرض والخالق؟!
اقرأ/ي أيضًا: