أقام فاكلاف مرهول جزءًا من فيلمه الجديد "الطائر الملوّن" (2019) على فكرة تُفيد بأنّ على المخرج، كما الروائي والرسّام والشّاعر وغيرهم، أن يلتقط الواقع ويُظهره لا أن يصنعه. وبنى الجزء الآخر في المساحة الفاصلة بين زمنين؛ أوّل منقضٍ قوامه الحرب العالمية الثانية، وآخر حديث الولادة، قوامهُ ما أورثته الحرب وزرعته في نفوس البشر. وبالتالي، يكون التشيكي قد بنى شريطه على ما يستحضرهُ هذين الزمنين من ألمٍ وعنفٍ وتوحّش أفرزته الحرب وراكمته في صدور ضحاياها، إلى أن ظهر أخيرًا بعد غياب أصوات الرصاص وبرود الجبهات.
لا يبدو فيلم "The Painted Bird" معنيًا بالحرب أو أحداثها الكبرى وتفاصيلها المثيرة، وإنّما بالزمن الذي أفرزته وما تمخّض عنها أيضًا
المخرج التشيكي، وعلى مدار ثلاث ساعات، لا يبدو معنيًا بالحرب أو أحداثها الكبرى وتفاصيلها المثيرة، وإنّما بالزمن الذي أفرزته، وما تمخّض عنها أيضًا. هكذا، سيوجّه صاحب "طبرق" عدسته نحو أمكنةٍ قابعة في الهامش، تبدو للمشاهد، وفقًا لما سيراها عليه مشهدًا وراء آخر، أقرب إلى مصحّة نفسية مُهملة وغير مرئية على الخريطة الشرقية للقارّة العجوز. هنا، في هذا الجزء الذي مًنح حصّة الأسد من الحرب؛ بدا مرهول مؤرّخًا أكثر منه مخرجًا، والسبب انشغاله بالعنف الذي سعى إلى تأريخه انطلاقًا من اعتباره عنفًا موازيًا لعنف الحرب المنقضية.
اقرأ/ي أيضًا: وثائقي عن تاركوفسكي.. كما لو أنّ المرء يولد شاعرًا
بينما تغيب الخنادق والحواجز والمتاريس تقريبًا عن المشهد؛ تحضر في المقابل، ونيابةً عنها، التشوّهات النفسية الحادّة، والتوحّش الذي يُبدِّد حيوات الآخرين، بالإضافة إلى العنف الذي يستدعي التنكيل كشرطٍ لا بدّ منه ليكتمل المشهد. وبالتالي، نحن إزاء تنكيل مزدوج: تنكيل الحرب بالبشر من جهة، وتنكيل البشر ببشر غيرهم من جهةٍ أخرى أيضًا. تمامًا كما لو أنّها فرصة من قُمعوا وُعنّفوا لممارسة التعنيف والبطش ضدّ غيرهم. علمًا أنّ كلًا منهما، أي وجهي التنكيل، يقومان على الاختلاف، ويتّخذانه ذريعةً لممارسته.
فاكلاف مرهول اختزل قضية/ مأساة الاختلاف هذه بمشهدٍ قصير اختزل بدوره الشريط بأكمله، ومعه طبيعة الأزمنة التي وزِّعت أحداثه عليها. والمشهد كالتالي: يأتي أحدهم بطائرٍ صغير ويصبغ ريشه بطلاءٍ ملوّن، ثمّ يتركه ليلتحق بسرب طيورٍ أخرى من جنسه، وإذ بها تنقضّ عليه وتفتك به لأنّه، وباختلاف مظهره، بدا غريبًا وغير مألوفٍ كذلك بالنسبة لهم، بل ودخيلًا على السّرب الذي له هويّة ولون ومظهر واحد فقط. مشهد كهذا دافعه الاختلاف وقوامه العنف، سيتكرّر مضمونه في الفيلم مرّاتٍ عدّة، حيث سنرى مثلًا مجموعة من النساء يمثّلن بجثّة فتاةٍ شابّة بعد انتهاكهنّ له انتقامًا لاختلافها عنهن لجهة جمالها الذي فتن شباب القرية، مقابل قُبحهنّ الذي ينفرون منه.
في فيلم "The Painted Bird"، قدّم التشيكي فاكلاف مرهول شريطًا مدّه بمختلف أصناف العنف
البحث عن عناوين عريضة لشريط "الطائر الملوّن" يقودنا إلى ما يلي: الحرب العالمية الثانية، وعنفها المنقضي/ المُتجدِّد، والمحرقة اليهودية، والعنصرية التي أفرزتها الحرب. تحت هذه العناوين التي تُحرك الأحداث، وتنسجُ تفاصيلها في الخفاء كذلك، يروي الشريط حكاية صبيّ يهوديّ كان أحد الشهود على المحرقة التي نجى منها ليبدأ رحلة بحث شاقّة بهدف العثور على والديه في أوروبّا الشرقية. الرحلة التي بدأت بعد وفاة المرأة التي عهد إليها والديه رعايته، وضعت الصبيّ في مواجهة حفلات طويلة من القسوة والتنكيل والوحشية، ذلك أنّه، شأنه شأن الطائر الملوّن، مُختلفًا أكثر مما يبدو غريبًا في القرى التي يقصدها.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Winter On Fire".. هكذا أطاح الأوكرانيون برئيسهم
قدّم التشيكي فاكلاف مرهول، وعلى مدار ثلاث ساعاتٍ تقريبًا، شريطًا مدّه بمختلف أصناف العنف الذي يوجّهه إمّا عنف آخر عاشه المُعنِّف سابقًا، أو التشوّهات النفسية التي تولّت الحرب مراكمتها في نفوس البشر. وضمن الساعات الثلاث هذه، لن يهدأ الصبيّ اليهوديّ أو يتوقّف عن مواجهة ما يختبره من عنف وإهاناتٍ وأفعالٍ كريهة تدفعه للبحث عن طرق وأساليب متجدّدة للبقاء على قيد الحياة لأطول فترةٍ ممكنة. وبينما يفعل ذلك، يصلنا ما يحدث جواره وضمن محيطه عبر مشاهد صادمة: مجموعة جنود يدخلون قرية فيبدون سكّانها عن بكرة أبيهم، ثمّ يمثّلون في جثث رجالها. بينما نرى رجل يفقأ عيني رجل آخر ويقدّمها طعامًا للقطط.
اقرأ/ي أيضًا: