في منتصف القرن الثامن عشر في باريس، وقبيل الثورة على الملكية في فرنسا، وفي بداية نشأة الحركة البرجوازية الليبرالية؛ كانت فرنسا مستنزفة من الحروب في تلك الحقبة مما سبب تغييرات جذرية في الذهنية والتفكير ونشوء ميل لاستبدال الديكتاتورية بنظام أكثر ديمقراطية.
كان المجتمع البرجوازي يعلي من شأن "البريستيج" وتشكل العطور الفاخرة المميزة صفة فريدة من صفات النبلاء. فالإنسان البرجوازي له رائحة، أي أنه معترف بوجوده، بينما اليتيم واللقيط والفقير يفقد أهم خصائصه الإنسانية. حتى الصوت واللغة خصائص ناقصة لمن هم خارج الدائرة البرجوازية الليبرالية. هذه الحركة التي تتميز بالرائحة الجميلة الذكية في مقابل الروائح البشعة التي تصدر من الفقراء في أحياء باريس. فالعطر وثيقة مرور للملائكة.
هل رائحتي التي يتلقاها الأخرون بشكل واع أو لاواعي، تحدد كيفية تصرفهم معي وسلوكهم اتجاهي؟
يطرح فيلم العطر (Perfume)، المأخوذ عن رواية باتريك زوسكيند، تساؤلات عديدة منها: هل رائحتي التي يتلقاها الآخرون بشكل واع أو لاواع، تحدد كيفية تصرفهم معي وسلوكهم اتجاهي؟ الرائحة تؤثر في الآخرين وفي ردات فعلهم تجاه بعضهم البعض، ردات فعل الآخرين اللاعقلانية في كثير من الأحيان.
اقرأ/ي أيضًا: "عن الحب والموت".. باتريك زوسكيند في مطبخ الشيطان
يأخذنا الفيلم للتصديق بأن الكثير من سلوكنا وأحكامنا على الآخرين إنما يتحدد بفعل الرائحة، وهذا سلوك غير منطقي ربما، ومتحيز إلى تحديد القيمة الوجودية للأخرين برائحتهم العطرة أو المقرفة. إنه فيلم يشبه قصيدة غزل بالعطر. فالرائحة هي إحساس لا يمكن للسينما إنتاجه، لكن الفيلم ينجح في نقل معنى الرائحة والعطر وميزتهما.
جان باتيست غرنوي ولدته أمه في سوق السمك النتن، ومن ثم قطعت حبل الخلاص بيدها وقذفته بقدمها جانبًا ليموت كما الخمسة السابقون ممن ولدتهم. شاء القدر أن يبقى غرينويل على قيد الحياة. نقل إلى الميتم وعاش طفولة بائسة، ومن ثم اشتراه دباغ واستعبده للعمل في مدبغه لمدة 16 ساعة يوميًا مترافقة مع إذلال وعنف جسدي ومعنوي.
غرنوي لديه حاسة شم خارقة وحساسة جدًا أكثر من الكلاب البوليسية، ولديه القدرة على الكشف عن الروائح وتمييزها بدقة. ويطمح لصناعة عطر يجعل الجميع يحبونه ويحترمونه. ويصبح مهووسًا بقتل الفتيات المراهقات وتقطير أجسادهن كما يفعل صانعو العطر بالورود لاستخراج روح الوردة وجوهرها، بغية اكتشاف العطر الأكثر إغراءً في العالم. يجرّب تقطير النحاس والخشب، ولا يتوانى عن تقطير الهرة حتى يصل إلى تقطير أجساد الفتيات.
لورا، فتاة جميلة شعرها أحمر، آخر ضحايا غرنوي في مسيرته لصنع العطر الذي لا يزول. دافع غرنوي للقتل ناتج عن رغبته في امتلاك تلك الروائح النادرة القادرة على إلهام الحب، لذا فكل ضحاياه كانوا من نفس الفئة: فتيات جميلات عذراوات بعمر الورد ولديهن رائحة جميلة فقط، وتطغى رائحتهن على كل ما عداها من الصفات.
الرائحة روح الإنسان
جسد غرنوي لا رائحة له. إنه كعناصر الهواء، إنسان بلا طعم ولا لون ولا رائحة. وربما حتى أنفاسه لا رائحة لها. لا يخرج من فمه سوى الصدى. كان يمكن له القبول برائحة فم كريهة، إلا أن حتى ذلك كان محرمًا عليه. شخص فاقد لخاصية انسانية جوهرية. وهذه الظاهرة تنسب إلى أسطورة تقول إن الشياطين تولد بدون رائحة! في الوقت الذي نعلم أن الرابط الأول بين الأم ومولودها الجديد هو الرائحة.
للعطر ذاكرة قوية، وبالنسبة لغرنوي تعتبر الرائحة عدسته، كما يستخدم البصر لرؤية العالم المحيط بنا. ويتفاعل العطر مع مزاج الإنسان، فكلما كان الإنسان سعيدًا كان العطر أكثر فتنة. ويتبع ذلك أن الرائحة تمثل أيضًا هوية، ميزة فريدة، فيتحدد وجود الإنسان بإفرازه الرائحة من عدمه. وبدون هذه الخاصية يصبح من الصعب على المرء أن يعتبر فريدًا، أو موجودًا حتى! وكذلك الحيوانات تتعود على الرائحة، وتحتفظ حاسة الشم لديهم بذكريات لروائح أصحابها.
كل حيوان مصاب بجنون العظمة لأن الحيوان يضع غريزته فوق أي اعتبار
يمارس غرنوي الجنس مع ضحاياه الجميلات بأنفه! يشم شعرهن، أيديهن، أقدامهن، أكتافهن، أثداءهن، والروائح المنبثقة من أفواههن وأنوفهن، وكل عضو من أعضائهن. كل إنسان له شيفرة خاصة تتحدد برائحة مميزة وفريدة إلا هو. يحاول غرنوي الاحتفاظ برائحة ضحاياه لكنه يفشل في ذلك، ولذا يسير وراء خياله الكبير أو وهمه المريض بصنع عطر الحياة الذي لا يزول.
طفولة معذبة
كلما تلقى الإنسان في طفولته القليل من الحب كان بحاجة لنسبة أكبر من الحب عندما يكبر. وتسري القاعدة على الانتماء أيضًا. لم يحظ غرنوي بطفولة جيدة مما أثر على مسار حياته السلوكية والنفسية كلها. فالحرمان العاطفي يحول الإنسان إلى مسخ أو قطعة من الحجر. وجه غرنوي كجدار رمادي دون أي ملامح أو تعابير تتأثر بجرائمه. إنه فاقد للإحساس والحساسية الإنسانية.
اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. قصة مشّاء
سمي جان باتيست تيمنًا بالقديس الذي أعدم في باريس وحمل رأسه بيديه ودفنه كما تقول الأسطورة. ومما لا شك فيه أن اسمه هذا يذكره على الدوام بنكران أمه له وعدم الرغبة به، ويذكره بفعلتها الإجرامية التي أعدمت بسببها وقطع رأسها. القتل عند جان باتيست أتى كرد فعل لموت أحاسيسه وتخشبها بفعل نشأته. إنه طفل لم يشعر يومًا بالعاطفة والحرارة والدفء لذلك كان يرتكب عمليات القتل بدم بارد وأعصاب هادئة.
لم يختبر غرنوي معنى الحب والتفكير المناسب، ولم يجد نماذج لأشخاص كبار يحتذي بهم أو يكونوا بالنسبة له مثالًا أعلى يقتدي بهم. ويواجه بابتيست الحرمان العاطفي والنبذ الاجتماعي الذي كابده بتخطي الحالة الإنسانية ورفضه لها والتمرد عليها. إنه يسعى للقفز فوق الحالة الإنسانية عبر تركيب عطر جديد ليس له مثيل. كان يسعى للوصول إلى المثالية. إلى الكمال الكلي. أن يصبح إلهًا. لذلك صار يبحث عن مبتغى جميع البشر: الخلود.
أنا أو لا أحد
اعتبار المجتمع لغرنوي تافهًا ونكرة خلق لديه الرغبة لاحتلال العالم. إنه شخص مصاب باضطراب الشخصية المرضي وتسيره رغباته وليس حاجاته. كل حيوان مصاب بجنون العظمة لأن الحيوان يضع غريزته فوق أي اعتبار، فيما البشر مقيدون بكل ما هو إنساني بالمعنى الفكري والعقلي والمنطقي.
حلم غرنوي أكبر منه لذا فقد متعة الحياة. إنه أناني لا يفكر سوى بنفسه، ولا يفكر سوى بنظرة الآخرين إليه، لذا يريد أن يركع العالم بأكمله تحت قدميه. إنه لا يشعر بالانتماء لهذا العالم. تضخم إحساسه باللاانتماء لدرجة أصبح لا يشعر بانتمائه للجنس البشري ككل.
في فيلم "Perfume"، حلم غرنوي أكبر منه لذا فقد متعة الحياة. إنه أناني لا يفكر سوى بنفسه
جان باتيست غرنوي شخص متجهم، هادئ كحية، قليل الكلام، يفكر كثعلب، ويمشي ويتحرك بخفة كذئب ليخطف فريسته. كان من الصعوبة القبض عليه لقدرته الفائقة على التلصص والتلطي وكأنه شخص لامرئي. ليس لديه أصدقاء، محادثاته قليلة جدًا، وعالمه داخلي أكثر بكثير من كونه عالمًا خارجيًا. إنه خفيف، أو ربما عديم الوجود بالنسبة للآخرين. إنه فارغ، بلا كيان إلى الحد الذي يتغاضى المارة عن ملاحظته في الطريق.
اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. انعزاليون في عالم عدائي
إنه شخص لا يخاف، لا يرتعب، يقتحم المنازل والحدائق والقلاع دون أي تفكير بعواقب أفعاله. غرنوي معجب بنفسه متباه حد الغرور المرضي، ويعتبر أن الناس جميعًا أدنى منه مرتبة في التفكير ويمكنه خداعهم. البشر غير متساوين به، ولسان حاله يقول: "أنتم لا شيء وأنا كل شيء".
العالم النفسي ألفرد أدلر يكتب "الطموح يدل بشكل أفضل وواضح على الغرور". والغرور المرضي حالة تصيب الإنسان عندما يفقد إحساسه بالواقع. المغرور يفكر بنفسه فقط، ويفكر بالكيفية التي ينظر بها الآخرون إليه. فغرنوي غير قادر على التكيف الاجتماعي ولا يتقبل الواقع ولديه طموحات وأحلام تفوق قدراته مما خلق شرخًا بين إمكانياته وطموحاته.
جان باتيست لا يرفض الأخلاق لكنه لم يستفد منها. الشيء الوحيد الذي يجعله سعيدًا هو تعميق موهبته الفردية في صنع العطور، والتي هي السبب الأساسي لوجوده على الأرض، وهذا الحق في خدمة موهبته وصقلها لا يجب أن يعترضه أي عائق أخلاقي. إنه حر بما يتخطى الحدود الأخلاقية التي وضعها المجتمع.
تنتابه رغبة متوحشة في الاستحواذ على روائح الأخرين. إنه يريد امتلاك شيء يملكه الآخرون، لكنه يطلب المستحيل، فيمكن لشخص سلب ملابس الآخرين ولكن ليس رائحة أجسادهم. صحيح أن غايته السمو إلى الخير والجمال لكنه يتخذ الشر وسيلة لذلك. إنه شيطان يسعى وراء الجمال والكمال في مجتمع باطل أخلاقيًا، وفي بحثه عن الجمال والإعتراف الوجودي يتحول من شيطان إلى ملاك. غرنوي مثل سيف ذي حدين يمشي بين الخير والشر.
إنسانية مفقودة
الفيلم رحلة في حياة غرنوي، من معاملته كحيوان إلى البحث عن إنسانية مفقودة ومسلوبة من المجتمع. إنه طفل يتيم منبوذ وغير قادر على إيجاد السعادة. إنه لا يحب، لا يكره، لا يفرح أو يحزن أو يغضب أو يضحك. تمثال أو صنم. متجمد المشاعر ومتبلد الأحاسيس. فاختزال الكائن البشري إلى وظيفة واحدة فقط تتحدد بالشم بمثابة نزع للإنسانية عنه.
في فيلم "Perfume"، الانتحار هو الفعل الإنساني الوحيد الذي استطاع غرنوي فعله
طفولته البائسة سلخت منه أعز ما يمكن للإنسان أن يحظى به: كينونته التي تتجلى بالأحاسيس الإنسانية العميقة. إنه أشبه بحيوان يطارد فريسة تلو الأخرى. إنه حشرة تتغذى على جسد الغير لتستمر بالبقاء. وعدم قدرته على التمييز بين الرائحة الجميلة والرائحة البشعة ترمز لعدم قدرته على تمييز الخير من الشر وبين الصالح والطالح.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Terminal".. حياة كتبها الانتظار
يبدأ الفيلم بولادته وينتهي بانتحاره. الانتحار هو الفعل الإنساني الوحيد الذي استطاع غرنوي فعله. وحين أكلوه كان ذلك أول فعل بدافع الحب يقومون به. التهامه من قبل المشردين المنبوذين هو أول شعور بالحب وأول ممارسة للجنس يقوم بها بالرغم من أنه عاجز جنسيًا.
رغباته أولوية وفي سبيل تحقيقها سيفعل أي شيء حتى لو تطلب الأمر قتل الأبرياء. فحين نظرت إليه آخر ضحاياه، لورا، وتلاقت نظراتهما سويًا، كان من الممكن لنظراتها أن تفطر قلب أقسى الطغاة والسجانين في العالم، كان يمكن لجمالها أن يجعل أقسى وأشد المحاربين يركعون تحت قدميها، وكان يمكن لرقتها أن تضعف أقوى الملوك، لكنها لم تؤثر في غرنوي وقتلها بدم بارد وقام بحلق شعرها وتقطير جسدها. فكلما كان الإنسان هجوميًا أكثر كلما كان ألمه أكبر!
خسر الرائحة مرة، رائحته، ولم يكن مستعدًا لخسارتها مرة أخرى. فقدانه لرائحة خاصة به خلقت لديه الدافع والرغبة لغزو جميع الروائح في الوجود. فاستطاع غرنوي إيصال الجميع إلى النشوة بواسطة العطر الفاتن الذي صنعه، وبات بإمكانه الانتحار بعد تحقيق نصف الهدف.
ورشحت من عينه دمعة لأول مرة في حياته حين رأى كل هذا الحب أمامه وكل هذا الاعتراف بوجوده. فقد استطاع تحقيق مبتغاه بأن يحبه الآخرون لكنه فشل في أن يشعر بالحب من داخله. وكذلك أدرك أن معاملة الناس الجيدة سببها عطره الفاتن وليس شخصه بحد ذاته فقرّر "الانتحار بالحب"!
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "Joker".. نشأة الحقد الطبقي والعنف الثوري في مدينة غوثام