يقول فيندرز في محاضرة له عن المكان في السينما: "أسير هنا وهناك. أرى المدن والشوارع والبيوت. أرى الناس يذهبون إلى أعمالهم. أرى الأطفال يلعبون. أنظر إلى مبنى مؤلف من عدة وحدات سكنية، فأرى نوافذ مضاءة، وظلالًا تتحرك خلفها. ربما امرأة تنحني وتنادي ولدها. ربما هناك إجابة من مكان ما: أنا قادم. لا أستطيع أن أمنع نفسي، في الحال، من الإحساس بأني أرغب في معرفة كل شيء عن هذا المكان: كيف العيش هناك.
كيف تنقضي الفصول. كيف يقضي هؤلاء الناس حياتهم في هذا المكان. من أين يحصلون على المتعة والمرح. ما الذي يقلقهم. كيف يأكلون، يشربون، ينامون، يعملون. أو أصل إلى مكان لا يعيش فيه أحد. لنقل، الصحراء. هنا أتخيّل البدو يتنقلون هائمين هنا وهناك، أو أتخيّل الصيادين يمرون أحيانًا. أو أول كائن بشري مرّ من هنا وألقي نظرة على تلك الجبال، وتلك البحيرة، وهذا السهل الواسع المرتفع. من الذي رسم أول خارطة في العالم؟ هكذا ترى أن الأماكن لديها جاذبية لا تقاوَم بالنسبة لي. إنها منبع إلهام لا ينضب أبدًا".
وهكذا يخبرنا فيندرز أنه ظل يتجوّل في برلين لشهور طويلة، ويراقب الأماكن والمباني ويلتقط الصور وينصت للغة الألمانيّة كما لو كان يسمعها للمرة الأولى، وكأنه يكتشف بلاده من جديد.
عملية صنع فيلم من غير سيناريو تشبه كتابة الشاعر لقصيدته وهو لا يعرف سلفًا ما الذي سيقوله في البيت التالي
يستطرد فيندرز "كنت أرغب في معرفة كل شيء عن سكان برلين، ماضيهم، تاريخهم، أفكارهم السريّة. المدينة هي التي استمالت هذه الرغبة. أردت أن أروي قصة هذه المدينة".
لم يكُن هناك قصّة للفيلم، ولا مفتاح، ولا حتى شخصيّات مرسومة، ولكن الرغبة في الحفر عميقًا داخل المكان، هذا لأن فيندرز شعر أن المدينة نفسها ترغب في التحوُّل إلى فيلم!
اقرأ/ي أيضًا: فيلم الثمن.. استغلال رخيص للاجئين السوريين في مصر
صدفة، يجد فيندرز جملة موجودة في دفتر ملاحظاته "تحدث عن المدينة من خلال وجهة نظر ملاك حارس". فيقرر أن هذا هو فيلمه القادم، وأطلق عليه (السماء فوق برلين)!
يستمر في حديثه عن صناعته للفيلم بدون سيناريو: "إن عملية تحقيق فيلم من غير وجود سيناريو يشبه إلى حد بعيد كتابة الشاعر لقصيدته. مثلما هو لا يعرف سلفًا ما الذي سيقوله في البيت التالي من القصيدة، كذلك أنا لا أعرف ما الذي سأصوره في اليوم التالي. كل شيء ممكن مع هؤلاء الملائكة. الأماكن كانت كلها مصطفة على ذلك الجدار في مكتبي، وبمجرد التحديق فيها أجد الإلهام الذي يساعدني في اليوم التالي من التصوير".
يحكي الفيلم الحادي عشر في مسيرة فيندرز -وبعد سبع سنوات مُهمة قضاها في الولايات المُتحدة- عن ملاكين، أحدهما يدعى دامييل والآخر كاسييل، يراقبان البشر منذ فترات طويلة، ويستمعان لأفكارهم، حتى تأتي لحظة مفصليّة ويقع (دامييل) في حُب فتاة تعمل في سيرك متجوّل تُدعى (ماريون) وهُنا يطلب أن يتحوّل إلى بشري!
نص الفيلم ينتهج في حركته الأولى وقتًا طويلًا، ولكن رغم ذلك فإن المُشاهد سرعان ما يدخل في الأجواء، نتعرّف على دامييل وكاسييل، ونراقب معهما ما يفعله البشر، وما يصاحب أفعالهم من مشاعر تنتابهم.
ورغم أن النص ينبع أساسًا من شخصيّات سماويّة/غير بشريّة، إلا إنه لا يتطرّق لمسألة الشك والإله ومن أين جئنا وأين الله. هذا النص لا يذهب بعيدًا في مناطق يعلم أنه لن يستطيع مجاراتها أو تطويقها، لكنه يكتفي بأن يحوّل الملائكة -والمشاهد معهم- إلى شهود وليس قضاة.
إلى جانب ذلك يلجأ النص إلى المقارنة بين (كاسييل) و(دامييل) لتمهيد اختلاف تصرف كل منهما عن الآخر، دامييل شاعري جدًا، يبدو كمن يريد أن يعايش تجربة البشر، لا يريد الخلود بل الفناء، يريد أن يدخّن، ويتذوّق القهوة، ويجرح يده، ويرتدي القبّعة.
والأهم أنّه يحتاج للعاطفة، ويريد شخصًا بجانبه يشاركه لحظات حياته، ويجد ضالته حين يقابل ماريون فتاة السيرك. على الجانب الآخر يبدو (كاسييل) واقعيًا، لا يستمتع بقضاء وقته، وتسيطر عليه المُعاناة، وبالتأكيد لا يريد أن يتحول، هو يبدو حتى عاجزًا عن مُجرد التفكير في ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: زقاق المدق: الرواية والسينما!
وكتمهيد ثالث ينتهجه الفيلم، يراقب النص فتاة السيرك ماريون التي تريد أن تصبح خالدة، مع الملاك الذي يريد أن يختبر مشاعر البشر الإنسانيّة، وكشرح للكيفيّة الغامضة التي يسير بها الحب، يسير النص، مثلًا دامييل ملاك يعيش منذ سنوات طويلة، لماذا اختطفته ماريون بالذات رغم أنه شاهد الآلاف من النساء؟
فيلم Wings of Desire عظيم للغاية، لا أعلم كيف فعلها فيندرز، لكنه يجعلنا نتفاعل معه بطريقة غريبة
هذه النقطة براقة جدًا وتضرب على وتر أكثر المشاعر الإنسانيّة غموضًا وعبثًا على الإطلاق. إخراجيًا يتوهّج فيندرز، وتتوهّج معه كاميرا المصور الفذ (هنري الكان) التي تتحرّك برقة وشاعريّة تناسب القصيدة التي يقدّمها النص. وأذكر من ذلك مشهد المكتبة أو مشاهد السيرك، إلى جانب شريط الصوت الذي يلتقط أدق التفاصيل وهمسات البشر.
وعلى مستوى الأداءات يبدو برونو جانز كملاك فعلًا، توقه الشديد والحالة الشاعريّة التي يقدّمها، ونبرة صوته، ونظرات عينيه في أداء جميل فعلًا، وطبعًا لا غبار على بيتر فولك الذي يقدّم في الفيلم شخصيّته الحقيقية.
هذا الفيلم عظيم للغاية، وواحد من التجارب السينمائيّة التي تُعاش مرة واحدة فقط، لا أعلم كيف فعلها فيندرز، لكنه يجعلنا نتفاعل معه بطريقة غريبة.
في كُل مرّة أشاهد الفيلم أتمنّى لو كنت جزءًا منه، لا أخيار ولا أشرار، لا يوجد حتى شخصيّات مكتملة الملامح ولا حاجة حتّى لاكتمالها، فقط ثنائيّاته التي يعمل عليها، الملائكة والبشر، دامييل.
وكاسييل، ودامييل وماريون، هذا الفيلم فتنة وسحر واحتفاء بحياتنا، حتى لو كانت قاسية، درس حقيقي في كيفيّة صناعة السينما، حتى بعد مرور ثلاثة عقود على إنتاجه.
لا أعلم كم المرات التي شاهدت فيها هذا الفيلم، لكن مشاهدتي له قبل أيّام على شاشة السينما أكّدت لي حقيقة واضحة، هذا واحد من أعظم عشرين فيلمًا شاهدتهم على الإطلاق.
اقرأ/ي أيضًا:
بانوراما الفيلم.. 5 أفلام وثائقية جديرة بالمشاهدة
أشرار العالم الجدد