الثروة صعبة: صعبة المنال وصعبة التحديد. هي صعبة المنال لكونها لا تقع غالبًا إلا في يد منْ حالفهم الحظ، وهي عسيرة التّحديد لأن أكثر النعوت تناقضًا تصدق عليها. فهي مصدر "الإثراء الفاحش"، وهي أيضا مفتاح كل خير وبركة. لا يعكس هذا التناقض فحسب اختلافًا في القناعات، وتنوّعًا في المنظورات، وتباينًا في المواقع التي ننظر منها إليها، وإنّما يعكس أيضًا أشكال التحوّل التي لحقت "الثروة" عبر التاريخ.
وحتى لا نبتعد كثيرًا عن عصرنا، نقتصر على التحوّل الذي عرفه المفهوم في المجتمع الصّناعي في مختلف مراحله. ها هنا أيضًا نلفي التحديد ونقيضه بين فترة كان فيها مالك الثروة لا يرى فيها وسيلة للاستمتاع الدنيوي، فينهج طريق التقشّف والتّوفير، وأخرى يذهب فيها مالك الثروة عكس ذلك تمامًا، فينهج سبيل الإكثار من الإنفاق والتبذير. بينما يرى الأول أنّ التقتير هو أضمن وسيلة لتكديس الثروات، ينهج الثاني الطريقة المعاكسة، وبالضبط تظاهرًا بالجاه، واقتحامًا لأبواب الكسب، ومنافسة للأنداد. كأن الثروة ينبغي أن تضيع حتى تتنامى.
الثروة صعبة: صعبة المنال وصعبة التحديد. هي صعبة المنال لكونها لا تقع غالبًا إلا في يد منْ حالفهم الحظ، وهي عسيرة التّحديد لأن أكثر النعوت تناقضًا تصدق عليه
مفهومان متعارضان اتخذتهما الثروة في ذلك المجتمع، تبعًا للمنظور الذي نُظر إليها من خلاله. ففي مرحلة أولى اقتُصِر على النظر إليها من زاوية الإنتاج. وهنا اعتبرت مصدر كل الإيجابيات. فهي الخالقة للشغل ما دام قدَرها هو أن توظَّف في الاستثمار وإعادة الإنتاج. بناء على ذلك فليس السّعي وراءها جشعًا وتكالبًا، وإنّما هو علامة على حيوية وفعالية و"جرأة على المغامرة وأخذ المبادرة".
أما في المنظور الثاني، الذي يعلي من قيمة الاستهلاك، فإن الثروة تعمل كبقايا. إنّها ما عندك ولن تنفقه. ما يفيض عن حاجتك. ينبغي أن ندرك مفهوم البقايا هنا لا بمعناه الاقتصادي فحسب، لا بمعنى الفائض، وإنّما في أقرب المعاني إلى الفضالة و"وسخ الدنيا" (les déchets)، وهذا نعت طالما ألفيناه مقترنًا بالثروة. من هنا تلك النظرة التنقيصية التي أخذت تلحق المفهوم، والنعوت السلبية التي تُقرن به، ونظرة الاتهام التي صار يُنظر بها إلى مالك الثروة على أنه "إنسان جشع" ينهج دومًا طريق "الإثراء الفاحش". فبينما يُنظر إلى الثروة في المفهوم السابق على أنّها منتجة مُوَلّدة، على أنها تهب وتعطي، تخلق الفرص وتفتح الآفاق، فإنّها تبدو هنا ملتهمة لذاتها، خجولة من نفسها. بينما تعتبر النظرة الأولى صاحب الثروة جريئًا مغامرًا مقدامًا، تنظر إليه الثانية نظرة تتهمه بالجشع. كأنّ المفهوم الأول يقوم على تحليل اقتصادي، بينما الثاني يلحّ على المنظور الأخلاقي. يجد هذا التمييز ما يبرره في ما أخذنا نلاحظه من تزايد التوظيف لمفهومات أخلاقية في تحليل الثروة، وخصوصًا مفهوم الفساد (Corruption) الذي لا يكاد أيّ خطاب سياسي أو اجتماعي يخلو منه اليوم، إلا أننا لا ينبغي أن ننسى أن العامل الديني الأخلاقي قد كان دومًا إما وراء تكديس الثروات، أو الكفّ عن الجري وراءها.
وعلى أيّ حال، فليس بإمكاننا أن ننفي الارتباط الذي أصبح قائمًا اليوم بين الثروة وبين مفهومات سلبية متعددة ربما يجملها مفهوم الفساد هذا. على هذا النحو يمكن أن نؤوّل حمىّ الاستهلاك وهوس الإنفاق في مجتمعنا المعاصر على أنهما محاولة لدرء هذا "الفساد"، وإعطاء معنى لما يعمل كبقايا. فكأنها عمليات يراد منها "ألا تُبقي إلا على أقل بقايا"، وتتخلّص ما أمكنها مما "يفضل"، فتدفع عنها كل تهمة. وربما لهذه الغاية صار الفرد في مجتمعاتنا لا يرى في ما لا يستهلكه إلاّ مجرّد فائض لا معنى له، وربما للغاية نفسها عمل تنظيم حياتنا المصرفية على تيسير العمليات التي "لا تُبقي إلا على أقل بقايا"، بأن جعل "الصرّاف الآلي" في متناولنا في كل مكان وحين، وأبدع بطاقة الائتمان محاربة للتوفير، وتطهيرًا من "الأوساخ"، ودَرْءًا لـ"الفساد"، وإبعادا لكل تهمة.