تضيق مساحة الحرية يوميًا في لبنان. يكاد يكون هذا العنوان مقدمة كافية للإطاحة بحق الناس في قول آرائهم والتعبير عن رأيهم الذي تنصه كافة الحقوق والشرائع الدولية، ومقدمة للإطاحة بما تبقى من انتظام بمختلف أوجهه الباهتة. تضيق مساحات الحرية على المستوى الفكري، وعلى المستوى الإبداعي والتمثيلي، وعلى المستويات الاكاديمية والسياسية، وصولًا إلى السينما، بالإضافة إلى ما يحدث اليوم على مستوى الإعلام وما تلاه من نقابات.
وفي السياق، أجرت نقابة المحامين في بيروت، التي تسيطر أحزاب السلطة عليها، تعديلًا في 3 آذار/مارس، يقضي بحصول المحامين على إذن خاص من نقيب المحامين شخصيًا قبل أي ظهور إعلامي، تحت عنوان ما يسمى "تنظيم آداب المهنة". حيث صرّح النقيب في 24 آذار/مارس الماضي قائلًا إن "قرار تعديل بعض مواد نظام آداب المهنة المتعلقة بالظهور الإعلامي، اتُخذ بإجماع جميع أعضاء مجالس النقابة"، مضيفًا أن الأعضاء "يدافعون عن القرار بقناعة كلية". وقد تمت ترجمة قرار النقابة مباشرة، عبر القيام باستدعاء بعض المحامين لأنهم تجرأوا على خرق قراراتها، وصرحوا للإعلام في قضايا تهم المجتمع، وتهمهم كأفراد ومواطنين في هذه الدولة، وعلى رأسها الملفات المتعلقة بالجرائم المالية.
تضيق مساحة الحرية يوميًا في لبنان. يكاد يكون هذا العنوان مقدمة كافية للإطاحة بحق الناس في قول آرائهم والتعبير عن رأيهم الذي تنصه كافة الحقوق والشرائع الدولية
تضيق مساحات الحرية في لبنان لتكشف عمّا هو خفي، وعمًا هو أكثر أصالة في حالة بقايا هذه الدولة المزيفة ومعاييرها المتناقضة والفصامية، فتُظهِر الوجه البوليسي للنظام ولقواه ولكافة قوى السلطة التي تسيطر على النظام وعلى مختلف النقابات، تلك التي تكم الأفواه بالعلن بعد أن كانت تعيش على بث ونشر أخبار حريات وهمية في كافة الاتجاهات. حريات تؤدي دور إطالة عمر النظام أكثر مما تساهم في تعريته، وكشف زيف ادعاءاته ومصادرته لحقوق الناس.
لطالما تمت مقاربة الوضع في لبنان، ووضع اللبنانيين وبقية المقيمين من مختلف الجنسيات فيه، بوصفهم يعيشون في واحة حريات، في نظام تطغى فيه الحريات على ما عداها من أجهزة وعلى كافة أدوات القمع. فكان لبنان صنو الحرية في رأي أيديولوجيّة النظام البرجوازي التابع، وفي رأي طروحات الأحزاب اليمينية والطائفية أيضًا. لقد عاش النظام، وتغذّى، على عناوين كاذبة، ليس أولها أنه نظام يحمي اللاجئين من القمع العربي المستشري في محيطه، وليس آخرها أنه نظام يستطيع تأمين القدر الوافي والكافي من الحرية ومن الأمان، كلها تحت وابل التصفيات المتنقلة التي تعيشها البلاد بشكل مباشر كل حين، منذ ما قبل الحرب الأهلية وصولًا إلى اليوم، والتي حصدت، بالإضافة إلى السياسيين، العديد من الإعلاميين وأهل القلم والفكر. ولطالما كان الرد يأتي من الناشطين والمناضلين، ومن عدد من جماعات التغيير، متمحورًا حول حقيقة مفادها أن قشرة الحرية التي تظهر فوق سطح الاحداث في لبنان ليست إلا مفهوم يختزن ممارسة غير أصيلة للحرية، بل قشرة تخفي وتغطّي على كافة أنواع القمع والتسلط، سواء في المجتمع أو في مؤسسات الدولة وأجهزتها، ونقاباتها، ومهنها، انطلاقًا من العائلية الضيقة، مرورًا بأماكن العمل والإعلام والتغلغل المصرفي وخطابه الذي يهيمن على كل تفاصيل الدولة، واستكمالًا بالمؤسسات التربوية والعلمية والأكاديمية والإعلامية، وصولًا إلى كافة مستويات العيش والنشاطية الإنسانية الأخرى. إذ هناك ميل خفي لا يلبث أن يُعلن عن نفسه عندما تبدأ قوى السلطة المستحكمة بعموم المشهد، في أي نظام في العالم وفي لبنان على وجه الخصوص، الضغط بكافة الأشكال الممكنة للقضاء على هامش الحرية، انطلاقًا من كافة العناوين والقضايا، بخلاف ما تزعمه، وصولًا إلى مواجهة وتصفية أي رأي يرتبط بمشروع سياسي نقيض.
إذًا، كان عالم وعناوين الحريات التي تهيمن على المشهد اللبناني، والتي تميّزه افتراضيًا عن محيطه العربي، مجرد عالم مليء بالأوهام. فيظهر أنه عالم تستحكم فيه أشد وأسوأ أنواع الديكتاتورية والبوليسية والتحكمية، سواء بالمال، أو بشراء الذمم، أو بالعنف والتصفية. فالقاعدة تقول إن السلوكيات القمعية الخطرة في أي مجتمع، ليست تلك الظاهرة والعلنية، بقدر ما هي الديكتاتورية الخفية التي تتلطّى خلف شعارات الحرية، وخلف ممارسات لا تشكّل أي نوع من أنواع الخطورة على النظام، لأنها حريات مؤطرة كعاصفة في فنجان، محصورة داخل الصندوق ولا تستطيع طرح أي سؤال خارجه، كما لا تستطيع الإحالة إلى ما هو خلف حدوده.
لكن الكلام لا ينعكس، ولا يُفترض أن ينعكس في خطاب تفاؤلي تردّده بعض قوى التغيير ويعتبر أن ما يجري يشعرها بالراحة، لأنه يكشف عن حقيقة النظام دون أي لف ودوران. بل هناك عدة ردود يمكن أن تتظهّر في هذا السياق، أبرزها أن قوى النظام تعيش راحة استثنائية، ولذلك فهي تمارس أشد وأبرز أنواع القمع، لأنها تدرك أن لا حسيب أو رقيب يحاسبها على أفعالها، بل هي تستطيع الاقتصاص من كل من يتجرأ على طرح أي سؤال أو يحاول رفع أي شعار في وجهها.
يتداعى الناشطون والمناضلون للدفاع عن مبدأ الحرية، عن مبدأ الحق بالكلام في ظل الانهيار الذي يحيل كل خطاب إلى لاشيء، في ظل السقوط التام للنقابات بيد أحزاب السلطة
أما القراءة الثانية، فهي التي ترى أن السلطة لا تلجأ إلى القمع إلا في اللحظات التي تشعر فيها أنها تواجه خطرًا فعليًا وجدّيًا. وهذا الخطر ينبع من قلب النظام، أي من بنية التسلط نفسها، وذلك بعدما وصلت إلى حائط مسدود جرّاء عدم إمكانيتها تعويم النظام وإطالة عمره بما يتناسب مع إمكانية القبض على كافة منافذ التغذية التي كانت تهيمن عليها في السابق. لكن يبقى السؤال، ما الذي يمكن أن يشكّل أي خطر على سلطة لا تواجه أي شكل سياسي منظّم في وجهها؟ شكل، أو تنظيم، أو جماعة سياسية تنتظم وفق مشروع، وتحاول الإطاحة بما هو قائم بهدف استبداله، ووضع شيء ما مختلف مكانه؟
لا شك أنه من الصعب تخطي السؤال أعلاه بسهولة، بل هو لبنة أساسية في أية مواجهة لنظام القمع الخفي هذا. إلا أن الظروف الموضوعية، على خلاف الشروط الذاتية، قد تغيرت بما يتناسب آليات وإمكانيات الإطاحة بقوى النظام ومرتكزاته ذاتها. فالعالم قد تغيّر، وعلاقات القوّة قد تغيّرت، كما وأن الأنظمة التي كانت تنتشل القوى الناهبة الحاكمة في لبنان لم تعد معنية ولا مهرولة لتعويم من نهب ودائعها واستثماراتها، ومن لم يحسن الأمانة التي وضعتها في يده، ولا من استثمر المال الذي اغدقت عليه فيه بمشاريع استثمارية إنتاجية فعلية، بل كانت تجيّر بأكملها إلى حسابات الطبقة الحاكمة وحاشيتها.
يتداعى الناشطون والمناضلون للدفاع عن مبدأ الحرية، عن مبدأ الحق بالكلام في ظل الانهيار الذي يحيل كل خطاب إلى لاشيء، في ظل السقوط التام للنقابات بيد أحزاب السلطة. فبعد البيانات التضامنية، وبعد سلسلة الاستدعاءات التي طالت مختلف الناشطين من مختلف المجالات، وعلى رأسها الإعلامية. وبعد الطعون بقرار النقابة، والتي تقدم بعض المحامين بها، بحيث تبت محكمة الاستئناف 4 أيار/مايو المقبل بها. تقف بيروت "وقفة حرية" أمام قصر العدل فيها، في رفض واضح لتعديلات مجلس نقابة المحامين، حاملين شعار "أم النقابات تأكل أولادها"، وقفة تدافع عن الحرية وعن حقوق المجتمع في المعرفة والعدالة. إنها بالأحرى وقفة تدافع عمّا تبقى من نسيم حرية في بيروت.