توفي عبد الرزاق دياب دون أن يخوض صراعًا مع السرطان الذي كان قد اكتشفه قبل شهر واحد، ذلك أن الشاعر المعتزل والبوهيمي السابق سرعان ما قرر الاستسلام. رفض أخذ العلاج الكيماوي مؤكدًا أنه لا يملك ما يفعله في بضعة الأسابيع الإضافية التي سيمنحها له هذا الدواء المر والقاسي.
لم يكن عبد شاعرًا كبيرًا ولا صحفيًا مشهورًا، وإنما كان بإمكانه أن يكون ذلك، وجميع من عرفوه كانوا متأكدين من هذه الحقيقة: كان مقدرًا للرجل الذي يمتلك هذه الموهبة الفطرية الصافية وهذا العقل الذكي وهذه الروح المرهفة أن يصبح ما لم يصبحه قط: اسمًا لامعًا في الشعر ونجمًا متوهجًا في الصحافة.
ظل عبد الرزاق دياب يمشي على حافة الشعر حتى اليوم الأخير من حياته، وكان يلخص حاله بالقول: "أنا أذكى من أن أسقط وأجبن من أن أذهب بعيدًا"
غير أن الرجل انطوى على نقيصة مدمرة ألا وهي الإفراط، الإفراط في الحساسية والإفراط في الشعور والإفراط في الطموح، ومقابل ذلك وضده: الإفراط في الإدراك. لقد عرف ومبكرًا ما لم نعرفه إلا بعد سنوات، بل وعقود: إن قدر هذه البلاد شحيح بالخيارات وعادم للطموح، وإن الشعر تحت هذه السماء وهم، وإن الصحافة بطالة مقنعة، وإذا كان اليوم كابوسًا فإن القادم أسوأ..
وتحت وطأة هذا اليقين المعذب، تحول عبد إلى عابث وعبثي، متخذًا من التهكم عزاء ومتنفسًا، ولقد كان يتهكم من كل شيء وفكرة وقضية، وعلى الأخص كان يتهكم من نفسه.
ومع ذلك، مع كل ذلك، فقد ظل يمشي على حافة الشعر حتى اليوم الأخير من حياته، وكان يلخص حاله بالقول: "أنا أذكى من أن أسقط وأجبن من أن أذهب بعيدًا"، وهكذا صار له هذا السلوك الفصامي الطريف: يكتب قصيدة جميلة في المساء ثم يستيقظ مذعورًا في الصباح فيسارع إلى تمزيقها. تنشر له الصحيفة في عدد اليوم ريبورتاجًا صحفيًا مثيرًا وفاتنًا، فيمضي النهار في تفنيد أخطائه والسخرية منه مكررًا أنه مجرد كذبة، مزحة سمجة، ومختلق بالكامل من أول حرف حتى آخر نقطة!
عندما دخلتُ قسم الصحافة، في العام 1988، كان عبد هناك، طالبًا في السنة الثانية، وشاعر كلية الآداب الأول ودون جوانها الأشهر، وكان يثير استهجاننا الشديد، إذ كيف لهذا الأسمر أشعث الشعر وعديم الأناقة أن يحظى بكل هذا العدد من الصديقات والمعجبات. وقد وضعنا في موقف مزدوج: من جهة كان يشكل لنا حافزًا ويثير فينا الشجاعة والإقدام، فقد صرنا نعرف أن الدون جوان لا يحتاج بالضرورة إلى بدلة جديدة وربطة عنق وحذاء إيطالي ملمع ولا إلى شعر أصفر وعينين زرقاوين.. وأننا نحن السمر ذوو الشعر الأشعث وعديمو الأناقة بإمكاننا أيضًا أن نكون محبوبين من النساء.. ولكن من جهة ثانية كنا نحسد عبد، ذلك أن اشتراكنا معه بالمواصفات إياها لم يمكننا من أن نكون ما كانه وسط البنات..
كانت كلمة السر ــ كما فهمنا فيما بعد ــ هي الشعر. وكان عبد لا يكتب الشعر، بل يعيشه، وعلى مدار اليوم كان يرابط في مقصف الكلية ليخترع الكلمات والمجازات والصور التي تخطف أنفاس الصبايا..
ولكثر ما ردد الطلبة أشعاره دون أن يعرفوا أنه قائلها. وفي مرة جاءته فتاة بأشعار له سائلة إياه إن كانت هذه الأبيات للسياب فعلًا، فأجاب ببساطة: "لا، إنها لي أنا"، ليحصل على ضحكة مفرقعة ساخرة وعبارة لاذعة: "أعرف أنك مغرور ولكن لم أكن أعرف أنك كاذب أيضًا".
في الصحافة كان عبد هو الجوكر الذي يحتاجه كل رئيس تحرير، إذ كان قادرًا على كتابة جميع الأنواع الصحفية، من الافتتاحية وحتى الكلمات المتقاطعة.
كان يكتب بأسلوب سلس وجميل وخال من الأخطاء، وبسرعة فائقة كذلك، وكانت السجائر هي المقياس: الخبر يحتاج إلى سيجارة، المقال سيجارة ونصف، التحقيق ثلاث سجائر
كان يكتب بأسلوب سلس وجميل وخال من الأخطاء، وبسرعة فائقة كذلك، وكانت السجائر هي المقياس: الخبر يحتاج إلى سيجارة، المقال سيجارة ونصف، التحقيق ثلاث سجائر.
وهذا الاتقان وهذه السرعة أهلاه لأن يكون اسمًا لامعًا في الصحافة العربية لولا عائق واحد: إنه هو نفسه لا يرغب في ذلك!
قبل أن يغدو زوجًا ملتزمًا وأبًا وقورًا، عاش عبد سنوات من التصعلك البريء والنبيل، وكان بوهيميًا معروفًا في دمشق، وإلى جانب الشعر اعتاد صناعة الحكايا وتوزيعها، وكان ليكون في مصاف كامل الشناوي وعبد الرحمن الخميسي، غير أن الزمان كان غير الزمان والمكان غير المكان. زمان عبد الرزاق متجهم ومكانه جاد أكثر مما يجب ولا يتسامح مع المتمردين الساخرين.
عبد كان عنوانًا عريضًا لجيل، بل لأجيال، أولئك الشباب والبنات من الصحفيين وعشاق الكتابة والأدب والذين توهموا أن الأفق أمامهم زاخر بالوعود، وما إن خطوا بضع خطوات حتى اكتشفوا أن ليس أمامهم إلا خيبة الأمل. منهم من عاند وكابر، ومنهم من يأس واعتزل، ومنهم من راح يتسلى بصناعة "البوشار" في الصحف والمحطات التلفزيونية.. أما عبد الرزاق فقد اختار ببساطة أن يموت.