يتيح معرض "توق" الذي تحتضنه غاليري "صالح بركات" البيروتية، الوقوف على تعريف آخر للوحة والعمل الفني. درجت العادة أن يتم اللجوء إلى الحياكة الاعتيادية المرئية مسبقًا، لكن إدخال مادة تسمى Tule إلى صلب اللوحة هو أمر جديد نوعًا ما. وحصيلة ذلك أن الأعمال تتيح إمكانية التنبّه إلى صناعة لوحة، وانتقالها من محل إلى آخر.
أعمال عزّة أبو ربعيّة هي نتاج إرهاصات نفسية وأزمات وحروب مرت بها، وجعلتها تلجأ إلى ثيمة الفراشة واعتمادها مدماكًا في هذا المعرض
تعتمد أعمال عزّة أبو ربعيّة على ركيزة أساسية هي دمج مواد مختلفة لا تدخل فيها البويا والألوان، إنما تتمكن من مراكمة ما يسمى Tule فوق بعضها لخلق الألوان المحدودة، يضاف إلى ذلك الخيطان الملصقة غير المحاكة.
تجربة كهذه هي الثانية لربعيّة بعد معرضها الأول الذي أُقيم عام 2018 تحت عنوان "أثر"، واتخذ آنذاك طابع الحفر بالأسود والأبيض. الأعمال الحالية وليدة إرهاصات نفسية وأزمات وحروب مرت بها الفنانة، وجعلتها تلجأ إلى ثيمة الفراشة واعتمادها مدماكًا في هذا المعرض.
ضم الأخير عددًا من اللوحات المقسمة إلى أربعة أقسام. أولها تكوين الفراشة، وتتبعه أقسام أخرى نراقب فيها مراحل نمو الفراشة إلى أن تلقى حتفها. وفي صورة أخرى مواجِهة، تجسّد فكرتَي الرجاء والأمل الإنسانيّين. وتنتهي الأعمال بجدارية ضخمة تُجاورها لوحة شقيقة مطابِقة فيها نوع من الجنائزية وتشييع الفراشة.
الأعمال مشغولة على مدى سنتين متتاليتين. الأولى تحوي تموّجات في عملية صف وتركيب الـ Tule فوق بعضه. أما الأخيرة، فقد غابت عنها هذه الصفة وحلت محلها خيوط قليلة متماهية في الصورة وداخلها. الصفة الأساسية التي يمكن أن تُلصق بأعمال أبو ربعيّة هي السكينة والسلام والطمأنينة. هي أشبه برحلة تأمّل في رحاب تجربة خاصة، انطلقت الفنانة لمعالجة مشاكل وأسس مرّت عليها خلال تجربة الحرب السورية ومآلاتها.
تفتح أعمال عزّة أبو ربعيّة الحالية الباب على السؤال عن وجود أصداء جديدة متنوعة بين حياكة وتدبيج الـ Tule، وبين البيرفورمانس أيضًا. صحيح أننا أمام لوحة عادية و"مُكَوْدرة"، إلا أن المسألة التي تعرضها، بشخصياتها وأسئلتها وخطوطها الكلاميّة المرافقة وغير المفهومة، تُثبّتها في هذا المكان. يضاعف من ذلك الشعور قوة التأليف المتفاوتة بين لوحات ممتلئة، ولوحات يعكّرها البياض.
يمكن الإيجاز بأن تجربة عزّة أبو ربعيّة الحالية غير مسبوقة في عالم الفن العربي. استخدام الـ Tule أمر حديث ومستهجن نوعًا ما. أما جديد المعرض، فيكمن في فكرة خلق بعض الألوان دون اللجوء إلى ألوان أخرى، وكذا تقديم تجربة تسعى إلى خلق حيّز مواز بعيدًا عن اللون.
شرانق نيلسي مسعود
يترافق مع معرض "توق"، في الصالة العليا من الغاليري، معرض يحوي أعمال تجهيزية للتشكيلية والمصممة اللبنانية نيلسي مسعود بعنوان "تحوّلات". ومع أن كل معرض يمشي بذاته، إلا أن فكرة الفراشة والشرنقة تجمعهما.
الصفة الأساسية التي يمكن أن تُلصق بأعمال عزّة أبو ربعيّة المعروضة في غاليري "صالح بركات" تحت عنوان "توق"، هي السكينة والسلام والطمأنينة
نقطة الالتقاء بين أعمال نيلسي مسعود وأبو ربعيّة هو الخيط. التجربتان تردّان إلى الخيط في عملية صنع وتسيير اللوحة والتجهيز. تعتمد نيلسي مسعود على لِيَف الاستحمام، تخيطها وتربطها ببعضها البعض لتصنع منها مكانًا معلقًا. المزج واللصق بالإيبوكسي، يضاف إليها امتدادات الألوان المرافقة، تجعل من التجهيز مادة تحضيرية ساطعة، تأخذ قوامها بشكل طولي وليس عرضي، كما تجرح حين الإشتغال.
التجهيزات المتعددة المعروضة تفتح النظر على مادة جديدة يمكن توظيفها في تنسيج الأعمال الفنية وبنيتها، وما يساعد على ذلك هو الملمس الخشن ونوع من الصلابة المتوافرة فيها وقدرتها أيضًا على تشرب الألوان. السياقات المختلفة في التجهيز تثبت قدرتها على تقديم ممارسات متعددة وجوهرية بعيدة عن الرتابة، وقريبة من التجريب والتجديد.