في صباح اليوم التالي، كانت الجثة وسط النهر على شكل علامة استفهام. انحناءة ظهره ظلت عالقة في ذهن الجميع. لقد هرب صاحبهم إلى خشبته الأخيرة، مستقره الأبدي، وإلى عدم انتظار إجابات لأسئلته.
أخبرهم الليلة الفائتة أن جسده يصدر رائحة عطب ما، ويخرج صدئًا مصحوبًا بأصوات تشويش قوية، وأنه دائمًا ما يشعر وكأنه ينزلق مع عظامه من على جبل مفروش بالزجاج. لكن هذا الصُّراخ الخفيف مرَّ عليهم مثل نكتة كبيرة، وأخذوا يتبادلون النكات الصغيرة فيما بينهم. "جسده يصدر صوتًا؟ ورائحة؟ ماذا يظن نفسه؟ آلة خياطة؟ أم غسالة ملابس؟". توقف عن شرح مشاعره لهم، وأخذ يضحك معهم، قائلًا: "بإمكان أي شخص أن يفرد وجعه على الطاولة، ويحوّله إلى نكتة سخيفة، بإمكانكم جميعًا أن تموتوا من عبارة مضحكة، أما أنا سأموت ضاحكًا ومسامير اللوحات في خاصرتي". توقف الجميع عن الضحك، وبعد لحظات قليلة، عادوا يضحكون من جديد، وكأن نكتة أخرى حضرت للتو. ضحك معهم، وجلس قريبًا من النافذة، يتمتم كلمات لم أفهمها؛ لأن النوافذ لا يمكنها قراءة شفاه البشر على نحو جيِّد، خصوصًا أولئك المحشوون بالزجاج. مرت الليلة سريعًا عليهم، لكنها كانت تسير ببطء فوق جسده.
من النافذة، كانت الرياح تحرك ذكرياته، واحدة وراء أخرى، ذكريات سيّئة تتشكل على هيئة ضفدع نشط يتقافز أمام عينيه، ويشعل الفتيلة المنطفئة في روحه. رنّ هاتفه قبل أسبوعين، كانت مسؤولة الموظفين تخبره بألا يأتي إلى العمل مجدّدًا: "لقد وجدنا بديلًا عنك، موظف هادئ، ومتزن. بالطبع ليس ذكيًّا بقدرك، لكنه لا يحطم شاشة حاسوب كل يوم، ولا يمارس العادة السرية داخل الشركة. احرمنا من رؤية وجهك إلى الأبد". حاول أن يفسر لها موقفه، لكنها كانت قد أغلقت الهاتف مباشرةً. استغرب من لهجتها، خصوصًا وأنها معجبة به للغاية، وكانت قد طلبت مرة الخروج معه في موعد غراميّ، ولكنه تحجج وقتها بانشغاله في المنزل. لم يكن مثلي الجنس، بل كان لديه ما يكفي من التجارب الفاشلة مع النساء، ولهذا كان يرفض أي امرأة أخرى تدق باب حياته؛ خوفًا من خيبة جديدة تحوّل قلبه بالكامل إلى رخام.
اعتاد أن يذهب إلى دوامه متأخرًا، علب البيرة على غير عادتها مع الآخرين، بدلًا من أن ترميه إلى السرير، كانت تجعله مستيقظًا، يشارك الليل مهنته في الوقوف على أسطح المنازل. وعندما يصل إلى الشركة، تنتابه موجة غضب شديدة بعد أن يوبخه مدير العمل أمام جدران مكتبه، فيقوم بتكسير شاشة حاسوب أخرى.
قبل عدة أشهر، كان موظفًا بارعًا في تصميم الرسوم المتحركة، بل كان الأفضل في هذا المجال، مما كان يصعب على الشركة أن تستغني عن خدماته بعد كل هذه التصرفات الغريبة! دخل مدير العمل مرة إلى مكتبه، وخرج مسرعًا من بشاعة المشهد؛ بعد أن رآه مندمجًا في مشاهدة فيلم إباحي، مخرجًا قضيبه، وبجانبه علبة مناديل متّسخة. "لا يعقل هذا! من غير الطبيعي أن يصطحب أحدهم شهوته إلى العمل! هذا الرجل غريب، لا يمكنه الاستمرار معنا أكثر من ذلك". قبل نهاية دوام اليوم التالي، دعاه المدير إلى مكتبه. "حسنًا، أخبروني أنك تفعل أشياء غير منطقية أثناء الدوام- غير التأخير بالطبع- تكسير ممتلكات الشركة، وتحويل مكتبك إلى سلة قمامة كبيرة ممتلئة بالمناديل والروائح النتنة. أعلم أنك الأفضل هنا، لكن هذا ليس بحديقتك!". ظل صامتًا، غير مكترث بالحديث، عبارات كثيرة خرجت من فم المدير لم تسمح كمية الكحول في جسده أن يلتقطها. الزجاج في داخله كان يصنع منه رجلًا باردًا، غير مبال بالتوبيخات. "عليك أن تجد حلًا لمشاكلك النفسيّة والجسديّة، زر طبيبًا، أو ابتلع أقراصًا مهدئة، الجميع هنا يشتكون من تصرفاتك". دون أن يتفوّه بكلمة واحدة، أكمل صمته، وأكمل المدير انزعاجه على نفس الوتيرة. "هل تعاني من بطء في الإنترنت في منزلك؟ رجاءً، بدءًا من الغد لا تصطحب قضيبك معك، اتركه في المنزل، أو أفرغه هناك. الكثير من الأعمال يجب أن تنجزها خلال هذا الشهر. بإمكانك الانصراف الآن." نظر في وجه المدير، ثم أدار وجهه للنافذة، ابتسم وخرج.
كانت الرياح في الخارج مستمتعة بلعبة التحريك داخل رأسه. كان من ضمن الأعمال المطلوبة منه، أن يقوم بتصميم مشهد لأب يهجر ابنه الوحيد في منزل بعيد عن المدينة، بعد أن تركه مربوطًا في إحدى الزوايا الممتلئة باللوحات. كان قد صمَّم المشهد في غضون أسبوع ونصف. لكن بعد أن أنهى هذا العمل وسلمه للشركة، شيء ما داخله تعطّل، وراحت حياته تتحوّل إلى كومة من التأسفات. كأن لعنة ما سرقت جسده، وتركته معاقبًا، إلى أن بدأ يفكر بطريقة للعربدة على أوجاعه، وتعطيلها للأبد. كان مقتنعًا، أن إقدامه على وضع حد للشوشرة في رأسه، لن يكون بسيطًا، خصوصًا أن له أخًا أكبر منه، اسمه الخوف، لكنه أراد تجربة قص شريط النهاية ولو بعظامه.
بعد أن ترك أصدقاءه يتبادلون النكات، وجلس بقرب النافذة، نظر إلى النهر البعيد عن جسده مسافة خمس دقائق على الأقدام، وتمتم بكلماتٍ أستطيع فهمها الآن "لماذا تركته يهجر ابنه على هذا النحو؟ أنا من فعل ذلك، أنا من سمحت له بالفرار، كما فر الكثيرون من حياتي. أنا من كبّل ابنه بخيوط ملوَّنة، وتركه وجبةً للظلام". عند الساعة الخامسة صباحًا، وبعد أن غرق الجميع في النوم، قرر هو الآخر أن يغرق، لكن بطريقة أخرى. أخذ أقراصًا مهدئة من جيب نصيحة مديره، وذهب إلى النهر سيرًا على عقارب ساعته، ونام هناك، وفي فمه سؤال أخير: "لماذا هجرتني يا أبي؟".
اقرأ/ي أيضًا: