كثيرون هم من كتبوا ونظروا في الأزمات التي تواجهها الدولة الحديثة، ومفهوم الدولة الحديثة هو مفهوم أوروبي برزَ في القرن السابع عشر واستمرّ في الترسّخ على امتداد القرنين التالييْن، ويُشير في مضامينه إلى نشوء الدولة الحديثة في أوروبا، بعد تخلّصها من الحروب الدينية التي استعرت فيها في القرن السادس عشر بفِعل حركة الإصلاح البروتستانتية، تلكَ التي هدمت أشكال الدولة التقليدية السائدة من امبراطوريات وإمارات وممالك وقوّضت مسألة ادعائها بامتلاك الحقيقة الدينية المطلقة وتمثّلها في سلوكها.
يأتي كتاب "براقع التنين: أو كيف تُصبح حاكمًا هوويًا؟" لفتحي المسكيني كي يدور في أفلاك التنظيرات الكثيرة حول أزمات الدولة الحديثة في أوروبا، حيثُ يُركّز على أزمة الهوية باعتبارها أزمة لها عدة أبعاد تؤثّر من خلالها على شكل الدولة الحديثة في أوروبا، وتُساهم في ردتها الرجعية إلى أشكالها التقليدية الأولى.
يبني المسكيني عنوان كتابه مستلهمًا عنوان كتاب توماس هوبز "اللوياثان" أو التنين، ويستبطن فيه إشارة إلى أنّ ولادة الدولة الحديثة قد تُشبه في بعض الأحيان ولادة تنين، والتنين استعارة دينية ترمز غالبًا إلى الحرب في معناها الأقصى أي الصراع بين الوحوش والإله، والدولة وهي ظاهرة حديثة بامتياز، يُمكن أن تستحيل تنينًا في حال عمِلت على إيقاظ الهويات البدائية الأولى في نفوس مواطنيها لتَقودهم إلى الدخول في حروب داخلية وخارجية.
في كتابه "براقع التنين: أو كيف تُصبح حاكمًا هوويًا؟"، يرى فتحي المسكيني أن أزمة الهوية في الدولة الأوروبية الحديثة هي أزمة بدأت ملامحها منذ القرن الثامن عشر وذلك مع بروز عصر النزعة القومية
وبحسب المسكيني، فإنّ أزمة الهوية في الدولة الأوروبية الحديثة هي أزمة بدأت ملامحها منذ القرن الثامن عشر وذلك مع بروز عصر النزعة القومية، فالنزعة القومية منشأها الأساسي ما يُسميه بينديكت أندرسون "الجماعات المتخيلة" فهذه النزعة –كما يراها المسكيني- "تفترض جماعة انتماء متخيلة يموت الناس من أجلها"، وهي نزعة يُمكن اعتبارها بمثابة الظلمة الحديثة الخاصة التي جلبها معه عصر التنوير والعلمانية والعقلانية.
يكمِل المسكيني تفنيد ملامح تكوّن أزمة الهوية في أوروبا المعاصرة، ويرى أنّ بروز أوروبا في صورتها الشعبوية في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين عائد إلى تراجع شكلها من أوروبا الدولة الحديثة والمواطنين إلى أوروبا الهووية؛ تلكَ التي تصاعدت فيها النزعات القومية في نفوس الأوروبيين حتى بلغت أوجها. أوروبا الهووية هي أوروبا "يتحدّث كلّ قومي فيها عن شعب "مؤمثل" واستيهامي بلا طبقات لأنّ مصادر ذاته قد أصبحت من نوع آخر من قبيل العرق واللغة والقومية والطائفة"، وهي أوروبا "تُعادي كلّ نوع من "الهجرة": لأنّ المهاجرين هم عندها "غرباء" بالمعنى القومي. ولذلك تنخرط أوروبا الهووية في بناء خطابات مزيفة للمشاكل الحقيقية (الأزمة الاقتصادية الناتجة عن العولمة) وتعوضها بنزاعات اعتراف زائفة (كراهية الأجانب، فوبيا الإسلام). ويًصبح الدفاع "المادي" عن مستوى العيش والقدرة الشرائية والوظائف دفاعًا هوويًا و"لاماديًا" عن أسلوب الحياة وروح الثقافة والهوية".
يرى صاحب "الهجرة إلى الإنسانية" أنّ أزمة الهوية في أوروبا المعاصرة هي إحدى المعاول الرئيسة التي تُهدّد ديمقراطيتها، وتهدم مبدأ المساواة لأنّها توفّر مقامًا للتمييز وللفصل بين الناس، ويُورد في هذا الصدد: "لا يُمكن للديمقراطية أن تكون مقولة فلسفية تُمكّن من التفكير في السياسة إلا إذا نجحت في جعل اللامساواة أمرًا مستحيلًا".
يُحاول المسكيني من خلال فصول كتابه المنفصلة المتصّلة، أن يُنبّه إلى أنّ أزمة الهوية في أوروبا المعاصرة هي جزء لا يتجزّأ من أزمة العالم الحديث (العولمة أو الرأسمالية ما بعد الصناعية)، وهي أزمة تجعل الدولة الأوروبية الحديثة تُطلّ برأسها كما لو كانت تنينًا يَستخدم لغة هووية أسطورية موغلة في القدم، ويدعو لتقويض قيم المواطنة في رؤوس الشعوب، واستبدالها بقيم هووية بدائية، تستند إلى العرق والدين والجنس والقوم، فرأس التنين التي تُطّل به الدولة الحديثة مستخدمة خطاب الهويات الأولى هو رأس يَظهر دائمًا في صورة من ينفث النار، ويدعو إلى الحروب التي يقودها الكلّ ضدّ الكلّ، ولا سبيل للانتصار عليه في أوروبا والعالم الحديث سوى بإعادة بناء الإنسان بما هو فردًا وذاتًا تُدرِك أن أهمّ ما فيها ليس الهوية بل الحقوق الإنسانية التي يُمكن أن تتبناها وتدافع عنها بشكل كوني.