يقول الفيلسوف الألماني ما بعد الحداثي بيتر سلوتردايك في مؤلَّفه الفلسفي العُمدة "نقد العقل الكلبي"، وهو يتكلم ويصف الظاهرة الفلسفية اليونانية وبداية بزوغ النظرة العقلية لدى أهل اليونان، ما نصّهُ: "في نور الصباح اليوناني، حين بدأ النَظَر العقلي ، وحين ، بطريقة مفاجئة وطريقة لا تُصدَّق … عَثَرَ الفِهْمُ على اللغة التي تُناسِبُه».
في هذا النّص المُريب يُعبِّر سلوتردايك، وبشكلٍ مباشر، عن أن الفهم البشري قد عثر مع اليونانيين على اللغة التي تُناسبه في إشارة إلى أنّ "الفهم" الذي هو شرطُ فعل التّفكير والتّفلسُف، لم يجد في جميع لغات الشّعوب التي سبقت شعب اليونان - وكأن عقولها أُصيبت بالعُقم - لغةً قادرةً على التّعبير عنه ومسايرته لإستكشاف الوجود. وكأنّ الفهم كان يعاني التيه والإغتراب، بل والعدم قبل اليونانيين.
لم يكن هايدغر وسلوتردايك أول من تبنّى هذه الرؤية التي تُحصر القدرة على التفكير والتفلسف في اللغة اليونانية، بل كان مذهبًا للكثير من المؤرخين قبلهما
لكنّ بيتر سلوتردايك لم يكن أول من إدعى ذلك، بل لعلّه قد استلهم هذا الادعاء "الفوقيّ" الخطير من سلفه الألماني مارتن هايدغر، حين طرح دعوته الشهيرة قائلًا إنه: "لا يمكن لأحد أن يتفلسف إلا باللغة الألمانية التي هي الوريث الوحيد للغة اليونانية العظيمة، وحتّى الفلاسفة الفرنسيون يفكّرون بالألمانية".
نرى أن مارتن هايدغر كان قد ذهب أبعد من مجرّد اعتبار "الفهم" شأنًا خاصًا باللغة اليونانية، بل إنه اعتبر أن إعمال العقل بالتّفكير في الوجود، ومساءلة هذا الوجود فلسفيًا، وبالتالي تحقيق إمكانية فهمه بعد مرحلة اللغة اليونانية؛ فعلٌ إستحال على جميع اللغات إلا الألمانية. بمعنى أنّ فعل التَّفلسف قد كان عدمًا عند هايدغر، أو كان بين التيه والإغتراب في نصوص فلاسفة الإسلام - كوريثي ومُترجِمي الحكمة اليونانية - والإنجليز والفرنسيين بعدهم، حتى نهاية رحلة التيه السعيدة بعثور الفهم على لغةٍ وريثةٍ للأولى وهي الألمانية.
الفهم/ النظر/ العقل عند هايدغر هو أبعد ما يكون عن شعبٍ - مهما كان تحضُّرُه - دون هاتين اللغتين. "بطريقةٍ مُفاجِئة، وطريقةٍ لا تُصَدَّق!" هي الجُملة الأكثر إرباكًا وقَلقًا من سلوتردايك، ولو تساءلنا ما الذي لا يُصَدَّق في الفلسفة؟ وماذا يعنيه تحديدًا؟ وما هي الطّريقة التي تُنجِزُ واقعًا حياً كالفلسفة في اليونان ولا تَكون قابلة للتصديق؟ تبدو الكلمة - لا يصدّق - ميتافيزيقية لدرجة أنها تُقابل "مُعجزة". وهي تساؤلات تُشير في الواقع إلى أمر واحد فقط: النظرة الفَوقية.
كثيرةٌ هي النصوص التي تصادف القارئ العربي، متضمنةً نظرة فوقية واستعلائية تجاه كل شيء ينتمي لمملكة "الآخر المُختلِف". هذا المصطلح الذي بتنا نراه يتكرّر بصورةٍ دورية عند فلاسفة ما بعد الحداثة، وعلى رأسهم سلوتردايك. والذي يُستعمل - بصورة رومانسية - بديلًا عن لفظة "بدائي" و"همجي" كما إعتاد فلاسفة القرن الثامن والتاسع عشر أن يُطلقوا على كل ماهو غير أوروبي.
وإن دلّت استمرارية الاعتساف والاستعلاء هذه على شيء، فإنما تدلّ صراحةً على وجه الأزمة الغربية في عصرنا الحالي المتمثلة بخطابات المركزية الغربية وما يتضمنه، بالضرورة، من عنصرية وعنف وتعسُّف تجاه البشر.
لم يكن هايدغر وسلوتردايك، بالطبع، أول أو أبرز من تبنّى هذه الرؤية المُبخسة، بل كان، كما أشرنا، مذهبًا للكثير من مؤرخي الفِكر قبلهما الذين اعتبروا الظاهرة الفكريّة في اليونان حدثًا فكريًا أوروبيًا "إعجازيًا"، وحدث تلقائي ذاتيّ، لم يتأثر بأي سبب أو عامل خارجي، وكان مُستندًا إلى لغته وثقافته وجغرافيته فقط. فما كان من اليونانيين - الأوربيّون - هو مُبَرّرٌ إنّما فقط لكونهم أوربيّون!
في مشروعه النقدي، يُساءل الباحث الدكتور "الطيب بوعزة"، التفسير بالمعجزة، وبالطريقة التي لا تُصدَّق، لنشأة الفِكر؛ بأنّه مُخالِفٌ عمومًا للفلسفة لأنه قد سلَّم بأن لا تفسير مَنطقي للظاهرة أبدًا. وهو، أي المؤرخ الأوروبي، إنما يريد بهذا القول تغطية تاريخ طويل من الفِكر والتّفلسُف ساهمت به الحضارات الإنسانية القديمة، كحضارة مصر وبابل والصين والهند، فقط لإرضاء نزعات التفوق والرّقي التي تُضحّي بالعقل - الإله الذي دعا لهُ عصر الأنوار - على مذبح الدين السّحري القديم لصالح وهم الإعجاز.
هكذا يكون تحت قناع التَّنوير وجهٌ بدائيٌّ، يَلينُ للأُضحية والقُربان لَينٌ أزَلي. وهو، كما عبّر هيغل مرّةً: "كالشّمس اتّجهت للغَرب، والشَّمسُ لا تَعود".