في كتابه "حرب المئة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017" (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2021)، يقدّم المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد الخالدي تحليلًا نقديًا دقيقًا لصراع الفلسطينيين مع الصهاينة الذي طال أمده، من خلال إعادة النظر في ستة أحداث محورية في تاريخ فلسطين، على مدى قرن من الزمن، شكّلت مسار هذا الصراع المستمر حتى الآن.
يصف الخالدي تلك الأحداث بأنها "إعلانات حرب"، ويبدأ بالإعلان الأول الذي يتمثّل في "وعد بلفور" عام 1917، الذي يصوره على أنه "الطلقة الأولى" في حرب طويلة الأمد ضد الشعب الفلسطيني. فعلى الرغم من لغة الوعد "الحميدة" ظاهريًا التي وعدت بـ"وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، إلا أنه في جوهره كان "إعلان حرب" لكونه تجاهل وجود السكان الفلسطينيين الأصليين وتجاهل حقوقهم، وأضفى الشرعية على الطموحات الصهيونية، ومهَّد للصهاينة الطريق لممارسة السلب والتهجير على مدار عقود من الزمن.
يقدّم رشيد الخالدي في كتابه تحليلًا نقديًا دقيقًا لصراع الفلسطينيين مع الصهاينة من خلال إعادة النظر في ستة أحداث محورية شكّلت مسار هذا الصراع
إضافةً إلى ذلك، سهّل "وعد بلفور" زيادة الهجرة اليهودية خلال فترة الانتداب البريطاني، مما شكل تحديًا للتركيبة الديموغرافية، ومهّد الطريق لمطالبات مستقبلية غير عادلة، ومكّن الوكالة الصهيونية من التلاعب بشراء الأراضي، مما أدى إلى تركيز ملكية الأراضي في أيدي المستوطنين اليهود على حساب ملّاك الأراضي الفلسطينيين. كما تم إنشاء مؤسسات إدارية منفصلة لليهود مقابل تهميش الفلسطينيين، ما أعاق تمثيلهم السياسي وهمّش صوتهم، ومن ثم قدرتهم على المقاومة.
يتطرق الخالدي في الفصل الثاني إلى إعلان الحرب الثاني الذي يُشير إلى الفترة المضطربة التي سبقت وأعقبت حرب 1948، وتهجير العصابات الصهيونية لما يقرب من مليون فلسطيني. ويُركز هنا على دور الولايات المتحدة الأمريكية في دعم الخطط الصهيونية من خلال تمرير قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة الذي منح 56% من الأراضي الفلسطينية لإنشاء الدولة اليهودية رغم أن الملكية اليهودية لم تكن تتجاوز 6% من مساحة فلسطين.
وأدى اعتماد خطة التقسيم في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، بدلاً من تعزيز السلام، إلى تكثيف الأعمال العدائية بين المجتمعين اليهودي والفلسطيني، ومهد الطريق لاشتباكات بلغت ذروتها في اندلاع حرب 1948 التي أدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم، وزيادة المستوطنات، وذلك على مرأى المجتمع الدولي الذي اكتفى بدور المتفرّج.
أما في الفصل الثالث من الكتاب، يدرس الخالدي التأثير العميق والدائم لحرب 1967 على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تقول الرواية الإسرائيلية حول الحرب إن "إسرائيل" دُفعت للمشاركة فيها رغمًا عنها، وأنها كانت تدافع عن نفسها فقط، لكن الخالدي يؤكد أنها كانت خطوة استراتيجية مُتعمَّدة، و"إعلان حرب" حقيقي بدعم من السلطات الأمريكية بقيادة ليندون جونسون، الذي أدى في النهاية إلى تعزيز وتوسيع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بشكل كبير.
يتحدى تحليل الخالدي الفكرة التبسيطية لحرب 1967 كرد فعل على تهديدات وشيكة. وبدلًا من ذلك، يكشف عن مجموعة من العوامل، بما في ذلك أهداف "إسرائيل" التوسعية، والحسابات العربية الخاطئة، والدعم الدولي، وغيرها من العوامل التي غذّت الصراع الذي نتج عنه انتصار "إسرائيل" السريع بعيد المدى، حيث أدى احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، إلى مضاعفة الأراضي المحتلة إلى ثلاثة أمثالها، وإخضاع ملايين الفلسطينيين للحكم العسكري المباشر.
ويستعرض الخالدي كذلك في الحقائق اليومية للاحتلال، ويسلط الضوء على نظام نقاط التفتيش وحظر التجول والعقوبات الجماعية التي تُقيّد حياة الفلسطينيين وحركتهم، والذي نتج عنه أشكال مختلفة من المقاومة الفلسطينية تنوعت بين الاحتجاجات السلمية والكفاح المسلح. وعلى الجانب الآخر، يرسم الخالدي صورة حية للتحوّل داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث غذّى احتلال الضفة وغزة شعور اليهود بأن هذه الأراضي من حقّهم.
ويلقي المؤرخ الفلسطيني بالمسؤولية على عاتق المجتمع الدولي، وينتقد فشله في محاسبة "إسرائيل" على انتهاكات القانون الدولي وحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، وقد تجلّى أثر ذلك في إعلان الحرب الرابع الذي تمثَّل في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي اعتبره الخالدي عملية إسرائيلية أمريكية مشتركة.
أحد الجوانب الرئيسية التي تناولها الخالدي هو المبررات والأهداف وراء الغزو، إذ قدّم الخالدي دراسة نقدية للمزاعم الإسرائيلية بشأن أسباب الاجتياح، مثل الهجمات الصاروخية التي تشنها "منظمة التحرير الفلسطينية"، والتهديدات المزعومة لأمن "إسرائيل"، مؤكدًا أن الدوافع الأعمق تشمل إضعاف القوة السياسية والعسكرية لـ"منظمة التحرير الفلسطينية"، وتفتيت القيادة الفلسطينية، وتعزيز السيطرة الإسرائيلية في جنوب لبنان.
ويتوقف في الفصل الرابع عند حصار بيروت الذي دام 72 يومًا، مع التركيز على تأثيره المدمر على السكان اللبنانيين والفلسطينيين، ومن ضمنهم الخالدي وعائلته، إذ يصور القصف الجوي والمدفعي المستمر، وندرة الموارد الأساسية، وتصاعد الخسائر في أرواح المدنيين، وارتكاب المجازر مثل مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، وصولًا إلى إجبار "منظمة التحرير الفلسطينية" على مغادرة لبنان، ما أدى إلى شتات فلسطيني جديد، وإعاقة تطلعات الفلسطينيين الوطنية.
بالانتقال إلى ما هو أبعد من الصراع العسكري، يتعمق الخالدي في التداعيات السياسية والنفسية الأعمق لحرب عام 1982، ويؤكد أن الغزو كشف القيود المفروضة على المقاومة المسلحة ضد دولة مثل "إسرائيل"، مما أدى إلى تعزيز خيبة الأمل المتزايدة تجاه عملية السلام، ناهيك عن كون حصار بيروت أدى إلى ترسيخ الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، مقابل إضعاف الفلسطينيين، سواء في لبنان أو في الأراضي المحتلة.
أما بخصوص إعلان الحرب الخامس 1987-1995، فيتمثَّل في حقبة مضطربة شهدت العديد من الأحداث الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، مثل الانتفاضة الأولى، واتفاقيات أوسلو، والتوسع المستمر للاحتلال الإسرائيلي، وزيادة عدد المستوطنات.
يقول الخالدي إن الانتفاضة الأولى انتفاضة عفوية، من القاع، وُلدت بسبب تراكم الاستياء ولم ترتبط في البداية بالقيادة الفلسطينية الرسمية، كما أنها كانت سلمية وغير عنيفة ما ساعد في حصولها على التضامن العالمي، لكن هذا لم يمنع "إسرائيل" من الرد عليها بعنف شديد شمل الاعتقال والقتل وغيرهما.
ثم ينتقل إلى الحديث عن اتفاقيات أوسلو، الموقعة عام 1993، والتي اعتُبرت في البداية نقطة تحول محتملة، لكنها لم تسفر عن شيء جيد للفلسطينيين، بل فشلت في معالجة القضايا الأساسية للاحتلال والمستوطنات واللاجئين، وذلك بسبب اختلال توازن القوى الذي سمح لـ"إسرائيل" بالحفاظ على سيطرتها وإدامة توسيع المستوطنات الذي يتعارض بشكل مباشر مع الهدف المُعلن للاتفاقيات، ما أدى إلى تآكل الثقة في عملية السلام، وتأجيج السخط الفلسطيني وتجديد العنف.
أما الفصل السادس والأخير المُعنون بـ"إعلان الحرب السادس"، فيتوقف رشيد الخالدي عند فترة صعبة على نحو خاص في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ يتنقّل بين أربعة أحداث محورية وقعت بين عامي 2000 و2014.
يصف الخالدي "وعد بلفور" عام 1917 بأنه إعلان الحرب الأول على فلسطين، أو "الطلقة الأولى" في حرب طويلة الأمد ضد الشعب الفلسطيني
ينطلق الكاتب من الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2000-2005، التي نتجت عن الإحباط من ركود عملية السلام واستمرار الاحتلال الإسرائيلي، مع سوء أحوال المعيشية مثل ارتفاع معدلات البطالة، ومصادرة الأراضي، وعدم التقدم نحو إنشاء دولة فلسطينية مُستقلة كما وُعدت السلطة الفلسطينية في اتفاقيات أوسلو.
وبالتأكيد، اتسم رد فعل "إسرائيل" على الانتفاضة بالعنف الشديد والقسوة، ويُفصِّل الخالدي في كتابه الإجراءات الانتقامية القاسية التي تم اتخاذها خلال الانتفاضة الثانية وأساليب العقاب الجماعي تجاه المجتمع الفلسطيني، وتلا ذلك ثلاث حملات عسكرية إسرائيلية على غزة في أعوام 2008 – 2009، و2012، و2014، نتج عنها تدمير البنى التحتية واستشهاد الآلاف من الفلسطينيين بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية.