صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من "سلسلة ترجمان" كتاب دليل أكسفورد للنظرية السياسية وهو من تحرير جون س. درايزك، بوني هونيغ، آن فيليبس؛ وترجمة بشير محمد الخضرا، ومراجعة عمر التل. يقع الكتاب في 1168 صفحة. ويشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام.
يوفر هذا الدليل تغطية شاملة وحاسمة للحقل الحيوي والمُتنازَع عليه للنظرية السياسية، ويساعد في وضع جدول أعمال له يمتد سنوات
تعرف النظرية السياسية منذ فترة طويلة بأنها أحد الفروع الرئيسة للعلوم السياسية، وقد نشطت في السنوات الأخيرة في اتجاهات مختلفة، حيث يدور التحليل النصي الوثيق للنصوص التاريخية مع العمل التحليلي حول الطبيعة والأسس المعيارية للقيم السياسية، وحيث تتنافس التأثيرات القارية وما بعد الحداثة مع التأثيرات من الاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع والقانون. علاوة على ذلك، تحث الاهتمامات النسوية المعاصرة على النظر إلى المشكلات القديمة بمنظار جديد، كما تفتح تحديات التقنيات الجديدة آفاقًا جديدة لهذا الحقل.
يوفر هذا الدليل تغطية شاملة وحاسمة للحقل الحيوي والمُتنازَع عليه للنظرية السياسية، ويساعد في وضع جدول أعمال له يمتد سنوات. ويحتوي على خمسة وأربعين فصلًا من تأليف مُنظّرين سياسيين بارزين، كلٌّ في مجال تخصصه، يبحثون في النظرية السياسية: كيف كانت في الماضي القريب، وإلى أين يمكن أن تتجه، وماهية جوهرها، وسياق عولمتها، والتحديات التي تطرحها التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية.
المخيال التعددي
في عام 1909، أعلن وليام جيمس "أن هيبة المُطلق تكاد أن تتقوض بين أيدينا". أضحت النظرية السياسية، بعد قرن من الزمن، تنظر إلى التعددية الأخلاقية والأدبية والثقافية على أنها أمر مستوطن، أو حقيقة سياسية تجريبية لا يمكن إنكارها.
ساهمت أجيال من التعدديين بالتنظير بشأن الطرائق التي تُقوّض النزعتَين الكلية (universalism) والواحدية (monism) في كل من النظرية والممارسة السياسيتَين. وفي حين لم تنجح النظرية التعددية في مجال سياسي شهد إنعاشًا لتركيز الاهتمام بالكلية، فإنها تخيلت مسارات كثيرة لتطوير القبول بمختلف القيم والثقافات وطرائق العيش. يضاف إلى ذلك أن المخيال التعددي تغلغل في التاريخ المعاصر للنظرية السياسية من خلال توجيه الاهتمام إلى تطوير طرائق للتعاطي الأصيل مع الاختلاف. ويرى وايت حقل النظرية السياسية "مضطرًا إلى الاشتباك مع التعددية اشتباكًا أعمق وأكثر اتساعًا من أي وقت مضى. وتبعًا لذلك، يجب أن ننهمك أكثر باستقصاء روح الجماعة والاستراتيجيات التي ينبغي أن تُحيي هذه المغامرة وتُرشدها". يجادل غونيل، في الاتجاه نفسه، قائلًا إن مُحاباة التعددية تتخلل النظرية السياسية وتنتشر فيها بعمق، والنظرية السياسية، في الحقيقة، "موطنٌ" لتلك المحاباة، والإرث الخطابي لذلك الحقل.
من الاهتمامات المركزية لهذه المدرسة الفكرية الأمران الآتيان: الاعتراف بالأساس التجريبي والاختباري للتعددية الثقافية والتعددية الأخلاقية، ومخطط التعاطي السياسي مع ذلك الاختلاف. ولم تكن الواحدية التحدي الوحيد أمام التعددية. ففي كثير من الأحيان طغى الخطاب الرئيس الآخر للنظرية السياسية - أي الليبرالية - على الباعث التعددي، وعمد جانب كبير من النظرية التعددية المتأخرة إلى تفحص التفاعل بين هاتين المدرستين الفكريتين. ومن الأمور المركزية للمناقشات في هذين الجانبين الطبيعةُ الإشكالية للاعتراف بالاختلاف، والطرائق المتخيَّلة التي اقترحها التعدديون للتعاطي مع تلك المعضلة.
يبحث الكتاب في النظرية السياسية، وكيف كانت في الماضي القريب، وإلى أين يمكن أن تتجه، وماهية جوهرها، وسياق عولمتها، وغيرها
كان أهم مخرجات هذه المواجهة بين التعددية والليبرالية التحرك العام نحو قبول افتراضات تعددية أساسية كثيرة. واكتسبت حقيقة الاختلاف والتنوع وقيمتهما، ومنشأهما من الجماعة، قبولًا واسعًا في المجال النظري. وليست المجادلة، كما كانت سابقًا، بين النزعة الواحدية والنظرية السياسية الوحدوية من جهة، والنظرية التعددية من جهة أخرى؛ بل التركيز بالأحرى هو على كيفية استيعاب الحقيقة التعددية في المجتمعات المعاصرة. وهذا أحدث في السياسة الليبرالية حاجة إلى المرونة؛ وفي حين أن هذه المرونة تزعج الليبراليين المهتمين بالقواعد الشاملة، فإنها كانت عقيدة مركزية للتعددية منذ الجيل الأول وحتى الآن. وعلى الرغم من أن بعضهم لا يسعد بالحالات الناجمة من عدم اليقين، والصراعات، وما لا نهاية له من الأعمال غير المكتملة، فإن عدم اليقين هذا يشكل مادة السياسة التعددية الذرائعية اليومية. أما معضلات الاختلاف، واستقلالية الجماعات، وشمول الآخرين، والانخراط، والعلاقات التصارعية فتبقى على ما هي عليه؛ معضلات.
من العدالة الدولية إلى العدالة العالمية
إن مفهوم «العدالة» مثار جدل محتدم على الدوام، لكن في هذا السياق، ربما ليس إشكاليًا بقدر اختيارنا الصفة الملحقة بالمصطلح. فهل ينبغي أن تكون عدالة «دولية»، أم «عالمية»؟ ينطوي الوصف الأول على ما يفيد أننا مهتمون بالعلاقات بين الدول أو الأمم؛ أي بين نوع الكيانات التي تُشكّل عضوية الأمم المتحدة؛ فالعدالة في هذه الحالة تُوجّهنا نحو المبادئ المعيارية التي تُبنى عليها مثل هذه العلاقات، كما تضمّنتها ممارسات المجتمع الدولي ولخّصتها، وبخاصّة خطاب القانون الدولي. أما العدالة العالمية، من جهة أخرى، فلا تعطي امتيازًا للدولة القومية بهذه الطريقة؛ فموضوع اهتمام العدالة هنا هو البشرية بأسرها، جميعُ الناس الذين يتشاركون كوكبنا هذا، وليس مسَلَّمًا به بأي حال أن أفضل ما تُخدَمُ به مصالحهم يكون من خلال المبادئ المعيارية التي تُؤسس عليها العلاقات بين الدول. فالوصف الإجرائي للعدالة، المتمثل في التصورات التقليدية للقانون الدولي، يواجه أفكار العدالة الاجتماعية العالمية. لكن الأمور ليست بهذه السهولة، فبمعزل عن أفكار العدالة الاجتماعية العالمية، يغدو التصور التقليدي للعلاقات الدولية موضع تحدٍ بفعل الأهمية المتنامية للقوى الاجتماعية والاقتصادية العالمية، وبتأثير موقع الولايات المتحدة التي حققت، وفرضت عبر موقعها، درجة من الهيمنة غير المسبوقة خلال الأعوام الأربعمئة السابقة. وبين التحديَين، تعيد العولمة والقوة الأميركية الهائلة (اللذان ربما يكونان وجهَين للظاهرة ذاتها) تشكيل الأجندة الدولية، ولن تفلت من هذه السيرورة أفكار العدالة الدولية.
من السهل الانقياد إلى رؤية عالم بلا حدود وممعن في العولمة. فليس من المحتمل حدوث هذا النوع من الانصهار للمجتمعات القومية الذي توحي به هذه الرؤية الكارثية في المستقبل القريب؛ وعوضًا عن ذلك، سوف تحاول المجتمعات القومية السيطرة على المشكلات الجديدة بأحسن ما تستطيع، حيث تستحدث من وقت إلى آخر مؤسسات، لكن غالبًا مع تبني مقاربات تميز السياسة كلها من نوع «تدبر الأمر بالإصلاح من دون تغيير». وهذا لا يعني أن تحديات العولمة لفكرتَي العدالة الدولية والعدالة العالمية غير حقيقية، بل يؤشِّرُ إلى أننا نعيش في ظل نوع من «فراغ الحكم». وكما أُرسِيَت في عام 1945 مجموعة من معايير حقوق الإنسان فوق معايير السيادة في نظام وستفاليا القديم بطريقة خَلَقت بوضوح مقدارًا كبيرًا من التنافر المعرفي الدولي من دون أن تَحله، يُصار الآن إلى التصدي لمجموعتَي المعايير من خلال ظهور مجتمع عالمي حقيقي. إضافة إلى ذلك، لا يرافق هذا المجتمع العالمي الجديد أي شعور باجتماع عالمي حقيقي، ومن الصادم للتفكير أنه في حين تجد المؤسسات الجديدة للحكم المعياري العالمي كمحكمة الجنايات الدولية دعمًا قويًا في أوروبا والأميركتين (باستثناء الولايات المتحدة)، فإنها لا تلقى تجاوبًا في آسيا أو العالم الإسلامي؛ ولم توقع أي دولة مهمة، آسيوية أو مسلمة، مشروع ميثاق روما الذي أدى إلى إنشاء محكمة الجنايات الدولية. هناك انقسام مرئي ومشابه لهذا الموقف عندما يتعلق الأمر بالمعيار الجديد المفترض حول «التدخل الإنساني» الذي يقتصر مؤيدوه تقريبًا على القطاعات الغنية وصاحبة الامتيازات في العالم. باختصار، تستمر في الوقت الراهن الأجندات التقليدية بشأن العدالة الدولية والعدالة العالمية مسيطرة على الخطاب، على الرغم من أنها غير مُرضية بشكل واضح، بالطريقة ذاتها التي تُسيطر بها الدولة القومية على السياسة العالمية، علمًا أنه ليس صعبًا إثبات أن الدولة القومية أصبحت مؤسسة عتيقة الزيّ، ولم تعد تخدم قضية الاستقلالية المجتمعية أو الحرية الإنسانية.
النظرية السياسية والنظرية الاجتماعية
ما يميّز النظرية السياسية على نحو خاص من فروع العلوم السياسية هو أنها الفرع الوحيد الذي تخصص في فحص القضايا المعيارية المتصلة بالحياة السياسية ودراستها أكثر من كونه مهتمًّا بتوضيح المفاهيم والقضايا المنهجية الأخرى، وهذه خاصية يتحلى بها معظم المساعي التخصصية الأكاديمية. وفي حين تركّز الفروع الجزئية الأخرى في العلوم السياسية على قضايا التفسير والوصف، تتعامل النظرية السياسية مع الحقوق والواجبات التي تلحق بالمواطنين خصوصًا، لكن ليس على نحو حصري إطلاقًا، وما يتعلق بعمل الحكومة. تتعاطى النظرية السياسية مع هذه القضايا بطرائق متنوعة، متراوحةً بين تفسيرات النصوص المعتمدة وتقصي تحليلات الاختيار العقلاني، لكنها تُعنى في المقام الأول بالطريقة التي يجب أن تعمل بها السياسة، وليس بكيفية عملها الفعلي في المجتمعات المعروفة.
على الرغم من أنه ليس صعبًا جدًّا العثور على مكان للنظرية السياسية في تلك الصورة من تقسيم العمل الأكاديمي، فإن موقع النظرية الاجتماعية ليس بهذا الوضوح. يُستعمل اصطلاح النظرية الاجتماعية أحيانًا بحيث يغطي الأنواع الكثيرة من النظرية الممكن وجودها في العلوم الاجتماعية التجريبية، وبصفة أخص في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.
إن أهم فرق بين النظرية السياسية التقليدية والنظرية الاجتماعية التقليدية يخصّ العلاقة بين القضايا المعيارية والقضايا الوصفية في تحليل الحياة الاجتماعية/ السياسية
إن أهم فرق بين النظرية السياسية التقليدية والنظرية الاجتماعية التقليدية يخصّ العلاقة بين القضايا المعيارية والقضايا الوصفية في تحليل الحياة الاجتماعية/ السياسية، فمعظم المنظّرين السياسيين، وليس كلهم، يركز على المجموعة الأولى من هذه القضايا (المعيارية)، بينما يعتقد المنظرون الاجتماعيون عمومًا بأن الجانبَين من التحليل لا يمكن فصلهما. ولهذا السبب جزئيًا، يعتبر معظم علماء الاجتماع أن النظرية السياسية فرعٌ من النظرية الاجتماعية.
تسيطر في كلا النظريتَين فكرة شخص الإنسان التي ليست محض تركيب ذهني معرفي أو ثقافي بل تركيب ذهني سياسي أيضًا. ومن ثم سوف يستمر هذا الشخص - والنظرة التطورية والنخبوية إلى الإنسانية التي يعززها - في تشكيل الفكرَين السياسي والاجتماعي، في حين يستمر النظام الراهن للدول والمجتمعات وأشكال الحكومات التي تعمل ضمنها، وفوقها، وخلالها في الهيمنة على الحياة السياسية والاجتماعية.