في كتابه "غرب كنيس دمشق"، (دار رياض الريس للكتب والنشر)، يرصد المؤرخ سامي مروان مبيض محاولات المنظمة الصهيونية اختراق المجتمع السوري بين عامي 1914 و1954، ساردًا الكثير من التفاصيل عن "يهود البلاد" الذين كانوا هدفًا أساسيًا لجهود المنظمة الحثيثة، وكذلك عن رموز العهد الوطني والضباط المؤسسين للجيش السوري، والذين رفضوا جميعًا (باستثناء حسني الزعيم) الاستجابة لاقتراحات مندوبي المنظمة وطلباتهم..
حكايات شيقة ولكنها مؤلمة، لاسيما أن بعض هذه الشخصيات السورية البارزة قد دفع، كما يقول الكاتب، ثمنًا باهظًا جراء هذا الرفض، كما أنهم، بلا استثناء، تعرضوا لتشويه سمعة مقصود في كتابات يسارية و"قومية" لاحقة، صاروا فيها مجرد "رجعية عفنة"، بل و"متآمرين مفرطين".. والذريعة اجتماع هؤلاء الرموز مع مبعوثين عن الوكالة اليهودية أو المنظمة الصهيونية، دون أن تتكبد هذه الكتابات عناء البحث في مضمون الاجتماعات وفي مواقف المجتمعين من السوريين وردودهم، والتي كانت في مجملها حاسمة وبعيدة تمامًا عن التفريط والتآمر..
يقول الكاتب: "حاولت إسرائيل جاهدة، وكذلك فعلت الوكالة اليهودية قبلها، والحركة الصهيونية مجتمعة، أن تخترق المجتمع السوري، إما لتدميره من الداخل وبث الفوضى والخراب بين أركانه، وإما للتوصل إلى اتفاق مع زعمائه يحقق دعمًا عربيًا لقيام الدولة العبرية على أرض فلسطين. وكانت جميع هذه المحاولات تتم بالإكراه عبر الترهيب والإرهاب، وإما بالتفاوض مع وجهاء سورية المسلمين والمسيحيين واليهود".
كان انقلاب حسني الزعيم، في 29 آذار/مارس 1949، قد جاء بتخطيط ودعم أمريكيين وإسرائيليين، عقابًا للقوتلي وسعيًا لفتح طريق صهيوني سالك نحو دمشق
كما سعت الوكالة اليهودية إلى تفريغ مدينة دمشق من مكونها اليهودي، و"نجحت في إخراج آلاف اليهود السوريين من بيوتهم".
الانطلاقة الأبرز في محاولات الصهيونية كانت مع الوجيه والسياسي الدمشقي المرموق حقي العظم، الذي استقبل عام 1913 صحفيًا مبعوثًا من الوكالة اليهودية اسمه سامي هوشبيرغ، وقد جاء هذا ليقنع العظم بدعم مشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مع وعد، بالمقابل، بتقديم دعم مادي كبير.
وألمح الصحفي إلى إمكانية استفادة العرب من مفاتيح أوروبا التي بحوزة "الوكالة". كان رد العظم قاطعًا ومغلفًا بالسخرية: لا يمكن للعرب القبول بهذا المشروع أبدًا.. ونحن لا نحتاج أموالكم، وإذا كانت مفاتيح الدول العظمى في حوزتكم فلماذا تطلبون مساعدتنا..
أبرق هوشبيرغ إلى رؤسائه ليضعهم في صورة مفاوضاته، فجاء الجواب: "العالم العربي لا يختصر في حقي العظم فهو رجل عنيد ومقتدر ماديًا، ولا يمكن استمالته بسهولة. عليك أن تفتح بابًا جديدًا".
تكررت المحاولة عام 1914، عندما زار دمشق الكاتب والمترجم اليهودي نعوم سوكولوف، الذي أصبح لاحقًا أمينًا عامًا للمؤتمر الصهيوني العالمي. عُقد اجتماع في الخامس من نيسان/إبريل في بهو فندق "فيكتوريا الكبير" القريب من ساحة المرجة، وحضره، إلى جانب سوكولوف، حاييم كالفاريسكي المسؤول عن شراء الأراضي العربية في فلسطين، والدكتور يعقوب ثون أحد ممثلي الوكالة اليهودية في يافا. أما عن الجانب السوري فحضر السياسي البارز عبد الرحمن الشهبندر، ونائب دمشق الأسبق في مجلس المبعوثان شكري العسلي، والصحفي محمد كرد علي صاحب جريدة المقتبس.
قدم سوكولوف الطرح المعتاد، مكررًا الاقتراحات والوعود ذاتها، فرد الشهبندر بشروط صارمة: أن "يتنازل اليهود الأوربيون الصهاينة عن جنسياتهم الأجنبية كي يجري التعامل معهم كمواطنين مشرقيين لا كوكلاء لدول غربية"، وأن يقدم الصهاينة تعهدًا مكتوبًا يكفلون من خلاله عدم سلب أي فلاح فلسطيني أرضه، وأن تتاح جميع المدارس الأجنبية العاملة في فلسطين أمام الطلاب العرب مجانًا ومن دون قيد أو شرط، وأن يتعهد اليهود بجلب استثمارات أجنبية في القطاعات التعليمية والصناعية والزراعية والصحية إلى جميع المدن والقرى الفلسطينية.
و"أكد الدمشقيون الثلاثة، الشهبندر والعسلي وكرد علي، على ضرورة أن تكون الهجرة اليهودية محددة وألا تقتصر على فلسطين وحدها، وأن تشمل كل البلدان العربية، بهدف تذويب اليهود المهاجرين داخل المجتمعات العربية، كي يصبحوا أقلية نافذة ومحترمة، ولكن ضمن أغلبية عربية، يعيشون في وطنهم الجديد مثلهم مثل جميع أبنائه من دون أي امتيازات".
بالطبع رفض سوكولوف ورفيقاه الشروط السورية بشدة، وخرجوا من الاجتماع دون تحقيق أي من أهدافهم، ومع ذلك فقد استمرت المحاولات عل المنوال نفسه: الطروحات اليهودية ذاتها فيما ظلت الردود من جانب الشخصيات السورية هي هي.
وكانت الذروة (وربما النجاح الأول الملموس) مع الإطاحة بالرئيس شكري القوتلي، والذي، حسب المؤلف، دفع بذلك ثمنًا لتشبثه بموقف مبدئي من القضية الفلسطينية ولعدم تنازله عن أي أرض عربية لإسرائيل، بالإضافة إلى السبب المباشر المتمثل برفضه التوقيع على "اتفاق التابلاين".
ويؤكد مبيض أن انقلاب حسني الزعيم (29 آذار/مارس 1949) قد جاء بتخطيط ودعم أمريكيين وإسرائيليين، عقابًا للقوتلي وسعيًا لفتح طريق سالك نحو دمشق.
ويصل السرد التاريخي إلى محطته الأخيرة مع الاجتماع الذي عقد تحت رعاية الأمم المتحدة، في مبنى الجمارك السورية على الحدود الفلسطينية، يوم 29 آذار/مارس 1951، بين الجانب الإسرائيلي ممثلًا بموردخاي ماكليف، والجانب السوري ممثلًا بأديب الشيشكلي، منفذ الانقلاب العسكري الثالث في سوريا والذي صار رئيسًا للجمهورية لفترة قصيرة. وهذه صورة عن أجواء الاجتماع: حاول موظف الأمن اقناع الشيشكلي بتسليم مسدسه الحربي قبل دخول الاجتماع، فرفض قائلًا: "أنا لم آت هنا للتفاوض على سلام، فأنا جندي في الجيش السوري، ونحن الآن في حالة حرب مع إسرائيل. ولا يمكنك مقابلة عدوك، كائنًا من كان، وأنت أعزل". تدخل ما كليف مستفسرًا: "هل نحن محكومون بأن نبقى أعداء إلى الأبد؟ هل يمكننا أن نتوصل إلى حالة سلم في يوم من الأيام؟". أجابه الشيشكلي: "طبعًا، ولكن السلام بالنسبة لي لا يعني تطبيع العلاقات بيننا وبينكم، ولا يعني كذلك أي تبادل تجاري أو ثقافي، أو حتى رفع علم إسرائيل في دمشق. هو مجرد وقف للأعمال القتالية".
وفي النهاية خرج الطرفان من الاجتماع، الذي استمر خمس ساعات متواصلة، دون التوصل الى أي اتفاق.
يبدأ المؤلف كتابه بالحديث عن يهود دمشق، ويختم بالحديث عنهم كذلك. لقد استمرت جهود الحركة الصهيونية من أجل دفع هؤلاء إلى الهجرة، وقد ظل عدد اليهود في تناقص، ليبقى منهم في دمشق منتصف العام 2017 "سبعون مواطنًا يهوديًا فقط، معظمهم من العجائز والنساء، يديرون أمور طائفتهم الصغيرة ويرعون شؤون كنيسها الأثري، رافضين مغادرة الحي العتيق الذي ولدوا وعاشوا فيه طوال حياتهم".