بات الحلُّ بسيطًا، وكلّ ما علينا هو تحضير أنفسنا للعيش على الجزيرة الاصطناعية.
حلّ فانتازي آخر؟ ومنذ متى يُقدّمون حلولًا غير فانتازية؟
راجعوا ما حدث وستجدون أنهم لم يملّوا من اقتراحها متدرّجين من قاع الشرّ، إذ اقترحوا إنهاءنا مع مشكلتنا بقنبلةٍ نووية، صاعدين إلى قمة الفكاهة وهم يُطلقون مقترحهم الجديد لنقل شعب إلى جزيرة اصطناعية، ربما حتى يحين الوقت لتكون هناك كواكب قابلة للحياة.
لم نعرف حلولًا ليست خيالية، كأن يكون تطبيع العلاقات مع بعض البلدان العربية لأغراض، أهمها قلة المروءة والازدهار الاقتصادي، إنقاذًا للمحاصرين في غزّة حتى بدء الإبادة الجماعية، وللمعزولين بفعل الفصل العنصري والمتروكين لعنف وهوس المستوطنين في الضفة الغربية. أو أن يتلخّص وصولُ طاغيةٍ إلى سدة الحكم في تأمين حدود العدو من بلاده لا تأمينها من العدو!
وعرفنا كذلك المجازر ومحو الأمكنة، على أيديهم مباشرة أو أيدي من يشبهونهم، وواجهنا عشرات الخطط لنقلنا إلى أمكنة أخرى، لكن أن يفكروا في جزيرة اصطناعيةٍ فالأمر يستحق منا التأمل فعلًا.
لم يعودوا راغبين بإلقائنا إلى المنفى، إلى اللامكان، مثلما اعتدنا على تسمية منافينا ومخيماتنا وتجمّعاتنا خلال ثلاثة أرباع قرن، بل يريدون لتخليصنا من عبء المكان نهائيًا، لأننا سنأخذ المكان معنا
لن نقول إن الفكرة الجديدة تُقدّم صورة واضحة عن الخيال الاستعماري، فهو واضح وجلي ولا يخفى على أحد، ومن أشهر شعاراته: "أرض بلا شعب" و"تحويل الصحراء إلى جنات". الجديد الآن هو نقل فكرة المنفى الفلسطيني من حيّز الأرض إلى الماء، وسبق للأرض، سواء في فلسطين التاريخية أو في بلدان الشتات، أن تحوّلت عند الشعب الفلسطيني إلى منفى، إذ عاشوا في مكانٍ وهم يحنّون إلى آخر، أو عاشوا في المكان توّاقين إلى ما كان عليه قبل وقوعه تحت الاحتلال. وهنا بالضبط يأتي أهم ما في الأطروحة الجديدة، فلكونها تحتاج إلى أنقاض من أجل ردم الماء، وما دامت لدينا أنقاض قطاع غزة، فهذا يعني أن تُصنع الجزيرة من ركام مدننا وبلداتنا ومخيماتنا، ويعني أيضًا أن نعيش مع المكان القديم نفسه، فلا مشقّةَ علينا لنبكي النفيَ والمنفى أبدًا.
بكلمات أخرى؛ لم يعودوا راغبين بإلقائنا إلى المنفى، إلى اللامكان، مثلما اعتدنا على تسمية مخيماتنا وتجمّعاتنا خلال ثلاثة أرباع قرن، بل يريدون تخليصنا من عبء المكان نهائيًا، لأننا سنأخذ هذا المكانَ معنا.
ربما يكون ما لدينا الآن بقايا حارات وأزقة وبيوت ومدارس وحدائق، غير أن هذه هي أمكنتنا فعلًا، وليست أمكنة الآخرين كحال منافي الأجيال الفلسطينية السابقة.
الجزيرة قصة بدأت حين طرحها وزير الخارجية الإسرائيلي. قال بفرح المخترعين الواثقين بما صنعت أيديهم إنها ستكون على بُعد كيلومترات قليلة من ساحل غزة، ويمكن بناء ميناء ومطار فيها. وهي مرشّحةٌ لتكون مشروعًا مزدهرًا.
رفض الجميع الفكرة. رفضتها الولايات المتحدة. مسؤولو الاتحاد الأوروبي شعروا بالفزع وخيبة الأمل منها. دول عربية عديدة قالت "لا" للجزيرة. مع أن أحدًا منهم لم يُخبرنا ما الخطير الجديد فيها ولم يُوجد من قبل: العزل، الحصار، الإبعاد، التطهير العرقي؟
ألم تكن غزة جزيرةً تحت المحاصرة والمراقبة؟ أليست الضفة الغربية أرخبيلًا من الجزر المفصولة بالحواجز والأسوار والمستوطنات؟ منذ متى لم تكن المخيمات، خصوصًا في لبنان، غير جزر في بحر من النبذ والنكران؟
لا جديد في المشهد سوى الماء. ورافضو المشروع يثيرون الدهشة حقًا، فلم نعرفهم يومًا على مثل هذا العناد والحزم. لعلهم يرفضونه لأنه يمكن قتل الفلسطينيين في الأرض، ولا يمكن فعل ذلك في البحر! على أية حال، كلّ ما يمكنهم قوله هو كلام يتعلّق بالمنطق ولا علاقة له بالرحمة، فالقتل أكثر الأفعال حاجةً إلى منطق، في حين أن الرحمة بطبيعتها تجافي دقّة العقل الاستعماري وحسّه الإباديّ السليم.
يحلو لنا تخيل الجزيرة وحياتنا عليها. وأول ما يخطر على البال أنها لن تمنع إمكانية رشق الصواريخ من عندنا، كما لن تمنع احتمالات الغارات الجوية علينا. والأهم من كل ذلك أنها لن تمنع عمليات مثل عملية السابع من أكتوبر مرة أخرى، بل ستُصعّب من تنفيذها وحسب.
ربما تشترط إسرائيل لدولة الجزيرة الفلسطينية، فوق نزع السلاح المطلوب بشكل بديهي، تحديدًا لنسل سكان الجهورية العائمة. فما من داعٍ لمزيد من التكاثر لهذا الشعب. وربما تقترح طريقًا خاصةً لبناء أجياله الجديدة، بدءًا من اختيار الألعاب التي يجب على أطفاله ممارستها، وصولًا إلى الكتب المدرسية التي ينبغي أن يتعلّموا منها.
أما ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون عليها، فسيأتي الموت، خلال عمله الطبيعي، ويحصد منهم من يقضي عليهم الزمن أو المرض أو الحزن. وكما هو متوقّع، سيبنون إلى جوار المنازل والمدارس والبلديات مقابر، كما فعل البشر عبر تاريخهم، ومع الوقت ستزداد المقابر وتضيق الجزيرة حتى لن تقبل بأن يُشارك الأمواتُ الأحياءَ مساحتها المحدودة، وسينبغي على سكّان الجزيرة الأحياء إلقاء موتاهم في البحر، كي يعيشوا بلا قبور ولا مقابر.
هنا تظهر خطورة خيال المستعمرين، إذ يكون على من لا يمتلكون مقابر ألا يمتلكوا ذاكرة!
الجزيرة قصة أخرى تتمحور حول سلب المكان وطرد سكانه، حتى لو قال رواتُها: اذهبوا بعيدًا في أنحاء الأرض، أو حتى في عمق البحر، واتركوا لنا الأرض لنحيا عليها كما أَحبّ لنا الله الذي اختارنا لنحيا عليها. لا مانع لدينا من أن تواصلوا حياتكم في منفى، لكن ليس أي منفى، شرطنا أن نُعدّه لكم لأننا سئمنا مما تفعلونه في المنافي التي تعدونها لأنفسكم. لم تكونوا يومًا جديرين بحرية النفي التي نمنحها لكم؛ أسّستم مخيمات تطالب بالعودة، ثم أطلقتم الكفاح المسلح من أجل الرجوع. وحين حاصرنا بعضًا من أماكن وجودكم حفرتم الأنفاق ثم تسلّلتم إلينا. انتهى ذلك العهد ولن تكونوا أحرارًا في منافيكم بعد الآن. تركُكم على البر خطرٌ، الجدار الحديديّ لم ينفع. الحلّ أن نبني لكم سجنًا في الطبيعة، وأن نجعل بيننا وبينكم جدارًا مائيًّا.
أما نحن فنسأل للمرة المليار: هل حدث لنا غير ذلك؟ ونجيب أنفسنا: لا، لا لم يحدث باستثناء الماء!