للمرة الأولى، أتأمل في تسمية "هزة أرضية"، كم هو توصيف مرعب أن تهتز الأرض من تحتنا. اعط التسمية حقها، أغمضْ عينيك، ثبت أقدامك فوق الأرض، وتخيل تلك القشرة التي تربط أقدامك بالكون، تترجرج كصحن جيلي.. تخيلت! الآن تخيل أن صحن الجيلي مصنوع من الحديد والأسمنت، وأنت بالداخل.
لم أختبر شعور الزلازل من قبل، فحين ضرب الزلزال الأخير مصر بقوة وتسبب في أضرار مادية وبشرية كنت لا أزال في طور التكوين ببطن أمي عام 1992. تخبرني أمي: حذارِ التوجه إلى الدرج وقت الهزة، لقد سقطت على الدرج وقت الزلزال وأنا حامل فيك. اليوم، أنا بعيد عن أهلي، عندما اختبرت هزتين أرضيتين خلال أسبوعين في بيروت، شعرت بهما بشدة، بالتأكيد ليس بقوة بؤرة الزلزال الذي زاد المأساة مأساة وتسبب في آلاف الضحايا، وبالتأكيد لم يسبب لي نفس الصدمة التي تسبب بها في نفوس الضحايا وأسرهم، بالنهاية لم نتعرض لأية أضرار في بيروت.
تخيلت أنني مصاب بدوار، ثم لاحظت أن كل أغراض الغرفة تتحرك، وملابسي المعلقة تتراقص، لم أعرف ما التصرف الصحيح
خلال الهزة الأولى، لم أدرك للحظة ما يحدث، وتخيلت أنني مصاب بدوار، ثم لاحظت أن كل أغراض الغرفة تتحرك، وملابسي المعلقة تتراقص، لم أعرف ما التصرف الصحيح، توجهت إلى النافذة بمنتهى الغباء لأتأكد من شعوري، أخذت هاتفي وفتحت باب الغرفة لأجد الأبواب تفتح في نفس اللحظة، خرجت فتاة من الغرفة المجاورة وسألت في ذعر: "هزة؟!"، لم أعرف هل هي فعلًا هزة أم لا، قلت: "تقريبًا". انتهت الهزة واستقر المبنى، تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي لأجد جميع التدوينات تتحدث عن الشعور بهزة قوية في مصر ولبنان وسوريا وتركيا... هاتفت أهلي في مصر، أخبروني أنهم لم يشعروا بشيء وأنهم بخير، أرسلت رسائل للاطمئنان على أصدقائي بتركيا وسوريا، ورسائل تضامنية للأصدقاء السوريين في الخارج، الذين مست الكارثة أهلهم بالداخل.
ظللت لأيام غير مدرك لطبيعة مشاعري، أو للخبرة الجديدة التي اكتسبتها، فالأمر أشبه لطفل يكتشف أسرار الحياة والموجودات ليعرف معايير الأمان والخطر، هل يتذكر أحدنا المرة الأولى التي تذوق فيها عصير من الليمون أو قضم فلفلًا حارًا بكل براءة؟ للوهلة الأولى لا تفهم ما يحدث، شعور جديد تمامًا، ولكن تتأكد من وجود خلل ما، هكذا كان شعوري، مرتبك، خائف، غير مستوعب، وغير قادر على اتخاذ أي قرار.
في الأيام التالية، بدأت في متابعة الأخبار ومشاهدة الفيديوهات الآتية من تركيا ومن الشمال السوري عن الآثار الكارثية الناجمة عن الزلزال، ولا أجد كلمات تعبر عن التضامن الكافي مع الضحايا. صرت أشعر بالعجز عن التعبير والشعور بعدم جدوى الكلمات والخجل من مشاركة أخبار الشمال السوري على مواقع التواصل، والتفكير في إمكانية تحول مشاعري من تضامن إنساني حقيقي إلى الخوف من مرور "تريند الزلزال" ومصمصة شفاه الإنسانية تحسرًا على المأساة السورية المستمرة، دون تسجيلي لموقف تضامني، فيؤخذ ذلك ضدي فيما بعد! اللعنة على تسجيل المواقف، واللعنة على التضامن الإنساني المشروط، وعلى المتاجرة في الإنسانية، وعلى الأهمية الوهمية التي نحملها للفضاء الإلكتروني ليصبح أكثر أهمية وأكثر قربًا للبشر من الواقع الفعلي، اللعنة على تسطيح المشاعر وتحويلها إلى وجبة سريعة كالماكدونالدز!
عندما حدثت الهزة الثانية منذ أيام، كنت جالسًا على مكتبي، عاكفًا على كتابة مقال، ثم شعرت بالدوار، بالتأكيد لأنني أعمل منذ الصباح وأحدق في شاشة اللابتوب منذ ساعات، ثم سمعت الزجاجات على الطاولة المجاورة تصطك ببعضها، أدركت أنها هزة أرضية أخرى، ولكن هذه المرة لم أتخذ أي فعل، أدركت أن لا وقت للتصرف، فأنا أسكن في الطابق السادس، تسمرت في مكاني منتظرًا قدري بكل هدوء، وجالت في خاطري كل الصور التي شاهدتها في الأيام الماضية. بعد أن انتهت الهزة، ارتديت الجاكيت، وأخذت السجائر واللابتوب وهاتفي وأوراقي الثبوتية وبعض النقود، تركت البناية وبقيت في الشوارع أدخن السجائر حتى تمالكت أعصابي من جديد وعدت إلى غرفتي. من حينها، لم يفارقني الشعور بالدوخة والدوار حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، ولا أعرف كم يستلزم من الوقت كي ينتهي هذا الشعور، كم من الوقت يستلزم كي أشعر بالثبات من جديد، وأن الأرض لا ترقص من تحتي، والكون لا يهتز من حولي.
تحدثت إلى كثير من الأصدقاء اللبنانيين عن شعورهم وقت الهزة، أخبروني بتذكرهم لحظات انفجار المرفأ، وتوقعوا انفجارًا جديدًا، أما الأصدقاء السوريون فاستعادوا ذكريات القصف، بينما تذكرتُ زيارات القوة الأمنية الضاربة التابعة لمصلحة السجون المصرية وقت زيارتهم لتفتيش غرف المعتقلين، نشعر باهتزاز المبنى وصيحات الجنود قبل دخولهم، وبعد انتهاء التفتيش تصبح الغرف ركامًا من إثر الهزة، فضلًا عن سرقاتهم لمحتويات الغرف، تمامًا كما سرق النظام السوري المعونات المرسلة للمنكوبين واستولى عليها.
جاء الزلزال ليذكرنا بواقع بلداننا الأليم، ويزيد الواقع بؤسًا، وينكأ كل جراح الماضي التي نحاول تجاوزها أو نسيانها، لنكتشف أن الهزة لم تكن أرضية فقط، بل هزت نفوسنا نحن الناجين منها كما هزت الأرض، أكسبتنا صدمة جديدة أو ضاعفت صدماتنا الماضية.