مع اللحظات الأولى من متابعتك يُصدّر المخرج الإيطالي "Paolo Sorrentino" حالة التناقض والغموض التي تحيط ببطله "بيوس الثالث عشر" في استعارة لشخصية بابا الفتيكان "بيوس الثاني عشر" ومن سبقه وحمل الاسم ذاته، ليقدم المخرج بيوس الثالث عشر الذي حل على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية المقدسة كبابا جديد.
يتخبط المشاهد ويكتشف ملامح تلك الشخصية التي تلوف حولها الغموض والتناقض ولا نعرف ماهيتها، هل هي شخصية أحادية التكوين تهدف للانتقام والشر والمطلق، ووصوله لكرسي البابوية لم يكن إلا بمحض صدفة تأهله للإطاحة بمن يزعجه؟ فحتى الحلقة السادسة بل والسابعة يقع المشاهد في شرك الشك، والتكهن حول ملامح هذا البابا اليافع الذي يحل على الفاتيكان بشبابه وأفكاره المتجددة.
مسلسل "البابا اليافع" يقوم على هدم المسلمات وإثارة الصدمة بنفوس المتلقين وهو ما يظهر في تكوين الصورة على مدار الحلقات
وبالتمعن في شخص بيوس الثالث عشر أو "ليني" كما هو اسمه، والذي يُعد محور أحداث الحلقات العشر، نجد أن ليني يجسد جميعنا، حيث الإنسان الذي تجتمع في ثنايا نفسه ملامح الخير والشر والخوف والغضب والرغبة والانتقام والعفو والتسامح.
ومن خلال 10 حلقات تقارب كل منها ساعة زمن، يبتكر -كما يصف نفسه في مقدمة المسلسل المخرج- شخصية تحتاج إلى التعمق في قراءتها وتركيب ملامحها للحصول على وجه الإنسانية بما تحمل من تناقض، اعتبر الكثيرون تقديم شخصية بيوس الثالث عشر نيلًا من قيمة الكنيسة الرومانية والفتيكان، ولكن مع الوصول إلى الدقائق الأخيرة من الحلقة العاشرة والأخيرة، يُرضي العمل المؤمنين -إن جاز التعبير- ومحبي الفن والحداثة.
حيث ينحي "Paolo Sorrentino" القداسة جانبًا، ويجعلنا نغوص في أجواء الإنسان من خلال الخوض في أعماق مدينة الفاتيكان التي تحمل رؤية خاصة حولها، وفي إشارة إلى أن رجال الدين لا يعتبرون وجه آخر لله، فإنه يقدم المكر والغضب والمؤامرات التي تجد لها مكانًا في نفوس البعض، تارة يقوم بها البابا الجديد، وتارة أخرى من حوله، مع هذا لا يسير المسلسل في تطور شكسبيري درامي. فرغم سقوط البابا الجديد في خطبته الأولى للجمهور إلا أن "Paolo Sorrentino" أزاح الوشاح عن الجانب الجيد بشخصيات الصراع، كما هو الحال في المونودراما.
كسر المسلّمات
كما فعل طه حسين ومن قبله سقراط فإن مسلسل "البابا اليافع" يقوم على هدم المسلمات للتفكر بها، وإثارة الصدمة بنفوس المتلقين، وهو ما يظهر في تكوين الصورة على مدار الحلقات وكذلك الأفكار التي يصدرها بابلو كمخرج ومبتكر للفكرة أمام متلقيه. وينجح في جعل المتلقي جزءًا من لعبة الاكتشاف. إذ ينغمس المشاهد معه حتى يصل إلى حل الأحجية الأخيرة ومعرفة الوجه الحقيقي لهذا البابا.
يمكن أن تتخيل عزيزي القارئ سرعة الإيقاع التي تمر به الحلقات الـ10 للموسم الأول من مسلسل "البابا اليافع"، إذ إن كل حلقة تمتاز بعدد كبير من الأحداث المتشابكة، والتي يستمر صداها على مدار حلقات تعقبها. فطوال ما يقارب الساعة في كل حلقة نكشف ملمحًا جديدًا في ليني أو من حوله من شخوص، كما نكشف أيضًا مراحل الإيمان القائم على التدرج.
رؤية حداثية
وضع المخرج عمله ضمن مدرسة، فكانت رؤيته هي البطل، رؤية تعتمد على الصدمة في البداية ومن ثم التعود ومحاولة الفهم ووصولًا إلى مرحلة التقبل في النهاية. فإذا شاهدت عددًا من أعمال المخرج "Paolo Sorrentino" ستجد أغلبها يعتمد على السكون وغياب الحدث والحداثة في الطرح لفكرة الإنسان وحياته وحريته ووجوده، مثل فيلم "الشباب" و"لابد أن يكون هذا هو المكان" واللذين يسهلان على المشاهد استيعاب طرحه لفكرة الإيمان من خلال بابا الفاتيكان، التي استهوت عددًا من مبدعي الفن من بينهم المخرج الإيطالي "ناني مورتي" في فيلم "لدينا بابا".
في مسلسل البابا اليافع ينحي المخرج Paolo Sorrentino القداسة جانبًا، ويجعلنا نغوص في الإنسان من خلال الخوض في أعماق مدينة الفاتيكان
كذلك فهناك العديد من ملامح التميز إلى جانب الإخراج والسرد في مسلسل "البابا اليافع" في مقدمتها الموسيقى لـ"Lele Marchitelli" والتي تنوعت مع كل حلقة لتتلاءم مع مجريات الأحداث، والتي اعتمد في أغلبها على ملامح الموسيقى الحداثية، كما كان للأغاني حضور كبير في الحلقات وتنوعت ما بين الإيطالية والإنجليزية، وتلاءمت مع المتغيرات. كذلك مثل تصوير "Luca Bigazzi" الذي رافق باولو في أغلب أعماله بسنواته الأخيرة، وشكلا ثنائيًا متفاهمًا، ترجمت ملامحه في صورة مسلسل "البابا اليافع"، التي حضرت واعية وحساسة تجاه اللحظات المتباينة.
أما التمثيل، فيعتبر من أجود عناصر العمل، فبحث باولو الإيطالي استعان بعدد من العناصر التمثيلية الإيطالية المخضرمة في مقدمتهم "Silvio Orlando" الذي جمع بين المكر والدهاء والفكاهة في آن واحد في دور أين سر دولة الفاتيكان. كذلك الأمريكية الجميلة الحاصلة على جائزة الأوسكار "Diane Keaton" التي لعبت دور مربية ليني وأمه الثانية وعونه في تجاوز مرحلة التأقلم مع كرسي البابوية الجديد، فيما برع الإنجليزي ذو الطابع الخاص "Jude Law" في تكريس ملكاته التمثيلية لتجسد ملامح ليني وأفعاله المتطرفة، فانتقل بسلاسة من القسوة والحقد إلى الطفولة والبراءة، وجسد بالفعل ملامح "البابا اليافع".