بات من الضروري أن يدرك اللبنانيون والسوريون أن لا إمكانية لعيشهما ولاستمرارهما من دون علاقة سويّة مع بعضهم البعض، أي أن تعي الطبقات غير المستفيدة من النظامين أن لا إمكانية لخلاصهما بشكل فردي، ولا إمكانية لتشكيل نظامين سياسيين قابلين للحياة في هذا الجنون العالمي، من دون مشروع سياسي يحسّن فرص وشروط تواجد الفئات الشعبية والمنتجة على الجهتين المتقابلتين من الحدود. فالجغرافيا والحدود المشتركة بينهما، تفرض أن يتطلع الشعبان إلى اتحاد إقليمي ديموقراطي تكاملي، اتحاد قابل لأن يمتد فيشمل دولًا وشعوبًا أخرى في المستقبل، إذا ما استبعدنا الخيارات التي جربها الشعبان طيلة الأيام الماضية وأتت بنتائج كارثية، لاسيما الشعب اللبناني سواء في خيار المنفذ البحري، أو خيار علاقة التبعية والاستباحة التي فظّع الجهاز الأمني السوري اللبناني المشترك خلال إرسائها، أو خيار التطبيع الذي يبدو أنه عنوان المرحلة المقبلة في المنطقة، والذي شرّع قرار ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وكيان العدو نموذجًا أوليًا تسلليًا منه.
بات من الضروري أن يدرك اللبنانيون والسوريون أن لا إمكانية لعيشهما ولاستمرارهما من دون علاقة سويّة مع بعضهم البعض، أي أن تعي الطبقات غير المستفيدة من النظامين أن لا إمكانية لخلاصهما بشكل فردي
أما بعد؛ بات من الضروري أن تعي الفئات الشعبية، وأن يجتهد مثقفوها على خط استشراف استحالة التغيير في البلدين في ظل الشروط السائدة، وأن يعوا أنه لا مجال للخلاص من الطبقات الفاسدة التي استباحت أموال السوريين واللبنانيين ومقومات صمودهم وممتلكاتهم، وثروات بلادهم، من دون تشكيل أحزاب ديموقراطية لديها تطلعات فوق وطنية، وتحمل رؤى استراتيجية تأخذ على عاتقها العمل على مستويين: مستوى أول يتمحور حول خلاصها من خصمها الداخلي، ومستوى ثاني يتمحور حول المساهمة في خلاصها من خصم حليفها في الجانب الآخر من الحدود أيضًا، أي الخلاص من خصميهما في الدولتين بوصفهما طبقة ذات عمق مصلحي واحد.
لقد وصلت الأمور، بعد كل هذه المعاناة الممتدة منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم، إلى ما لم يعد معه أي إمكان للتعامل بخفّة، خصوصًا على مستوى الحملات العنصرية والشعبوية بين الطرفين. فبات الرد عليها، ليس مجرد إجراءٍ انيٍ وسريعٍ فحسب، بل مشروعٍ سياسيٍ ذات أبعاد استراتيجية. كما وأن العجرفة المتقابلة لم ولن تصل بالشعبين إلى أي مكان، بل لا بد من قراءات تعمل على تبريد الاحتقان وتحاول معالجة مستويين جديدين من عمق العلاقة بدورها: مستوى أول يتمحور حول تكثيف الخصوصية الثقافية والتاريخية والسياسية والديموغرافية عند كل طرف من الطرفين، ومستوى ثاني يتمحور حول البحث في كيفية التكامل الإنتاجي والاقتصادي بينهما أيضًا. ولتحقيق ذلك، يحتاج الشعبان إلى تطلعات ديموقراطية لا مركزية وغير طائفية وفوق قوموية بالضرورة. تطلعات ترنو إلى ديموقراطيات تأسيسية لا تهضم مبادئ الاختلاف بين الشعبين بقدر ما تعمل على تثبيته، ولا تهضم وتصادر حق الاثنيات والقوميات المختلفة، ولا تكبت الاختلاف فيظل بؤرة توتر في القادم من السنوات. قراءات تُظهِر وتبني على جوهر الاختلاف بطرق علمية مستقبلية إغنائية، وتبحث في كيفية التكامل الاقتصادي والاندماج الاجتماعي والتسامحي كخطوة أولى ضرورية للحدّ من التوتر المتراكم خلف كل شعور بين الطرفين.
والكلام أعلاه ليس تكرارًا لجملة "شعب واحد في بلدين" البالية، والتي أكل الدهر عليها وشرب. ولا يردّد العناوين الفضفاضة التي وظّفتها الأحزاب البعثية بقراءاتها التقليدية الدكتاتورية، سواء "الوحدة"، أو "القضية"، أو "العروبة"، وصولًا إلى "الحرية" و"الاشتراكية". هذه العناوين التي استهلكتها وانهكتها الأنظمة البعثية، خصوصًا في سوريا، فاستطاعت البرجوازيات الحاكمة تحويلها إلى مجرد عناوين بلا أي مضمون تغييري، ولا أي ترجمة فعلية على أرض الواقع، باستثناء حملات التهريب عبر الحدود، وحملات الإفادة المشتركة لبقايا طبقات مستفيدة من البرجوازيتين اللبنانية والسورية على حساب الشعبين ومقومات الدولتين، وعلى حساب القضية الفلسطينية. فمن دون هذه القراءة سيظل الشعبان يحملان على بعضهما البعض، بما لا يخدم إلا طرفي السلطة في الدولتين.
لم يعد أمام هاتين الفئتين الشعبيتين إلا الخيارات التي تنظر إلى المستقبل، وإلا سيبقيان في التاريخ، عالقين في متاهات عملت الأنظمة على رسم تفاصيلها بكل دقة. متاهات مصالح الطبقات التي تدير النظامين، والتي لن تكون في صالح الشعبين بقدر ما ستكون على حساب مصادرة مصالحهم، وحقوقهم، وضماناتهم، ومستقبلهم.
إن كان لنا أن نستفيد من تجربة الربيع العربي، بعد كل هذه السنوات، لا بد من إدراك عبث التغيير في سوريا من دون التفكير في كيفية مواجهة الطبقة اللبنانية الحاكمة التي استفادت من النظام في سوريا
هذا هو الرد الطبيعي على كافة الحملات التي تضع غير المستفيدين من الطرفين في مواجهة بعضهما البعض. في حين أن الطبقات الحاكمة تستفيد من هذه الشرذمة، وتعيد انتاج نفسها من خلالها. فعلى منوال مقولة سمير قصير "إن ربيع العرب حين يزهر في بيروت، انما يعلن أوان الورد في دمشق"، وغيرها من مقولات وضعها عدة كتّاب ومفكرين ومثقفين آخرين، لا بد من الذهاب بعيدًا عن كل القراءات التي استحالت إلى لا شيء سوى هيمنة أقبية المخابرات، والأجهزة، وغزوات العسكر، ودوي التفجيرات والاغتيالات، والتي كانت تهدف إلى السيطرة ليس على شعب واحد فقط، بل بث روح السيطرة على بقية الشعوب المحيطة كذلك. لقد آن أوان إدراك الطرفان أن اسقاط من يحكم في سوريا سيصبّ في مشروع اسقاط من يحكم في لبنان، وأن تغيير النظام في لبنان سيسد الكثير من منافذ الأوكسيجين والتهريب عن نظام آل الأسد والاوليغارشية المرتبطة بها في سوريا.
إن كان لنا أن نستفيد من تجربة الربيع العربي، بعد كل هذه السنوات، لا بد من إدراك عبث التغيير في سوريا من دون التفكير في كيفية مواجهة الطبقة اللبنانية الحاكمة التي استفادت من النظام في سوريا، وكذلك في العراق، وفي بقية دول الربيع العربي، وترجمته في كيفية التعامل مع الواقع اللبناني وواقع بقية الدول، لناحية كيفية مواجهة الطرف اللبناني الأقوى الذي حمى النظامين السوري والعراقي من شعبيهما، وعزّز السطوة الإيرانية عليهما. والطرف الذي يدير النظام في لبنان اليوم هو حزب الله، والذي يؤدي دورًا استثنائيًا في النظام اللبناني البرجوازي الطائفي الذي يشكّل التربة الخصبة له ولغيره، بالإضافة إلى دوره في حماية الأنظمة التي عملت إيران على الهيمنة عليها وإعادة تدويرها في صالحها. فكل كلام عن أي مشروع إمكان تغييري مستقبلي، وعلى أي مستوى من مستويات النضال الشعبي، لا بد من أن يصل إلى هذه الحقيقة، أو لربما، لا بد من أن ينطلق منها.