يستحيل أن ينكر أي متابع للوضع في لبنان حقيقة أن ملف اللاجئين السوريين بحاجة إلى علاج إنساني، وسياسي، وعقلاني، لا علاج على نسق الترحيل قسرًا. وفوق هذه وتلك، علاج بحاجة إلى الكثير من الضمانات التي تؤكد على أنهم سيكونون، كأي لاجئين آخرين، بمأمن من أي عمليات ثأرية وتعسفية وإجرامية في بلدهم الأم. إلا أن الجدل ينصبّ اليوم، أقله من ناحية الرافضين للحملات الممنهجة التي تتهجّم على اللاجئين والتي يبدو أن أوركسترا السلطة وأجهزتها هي التي تحركها، حول طريقة التعامل مع حدث دقيق وشائك كهذا. حدث تتوقف حياة أناس عليه، ونحن في لبنان لنا خبرة لا بأس بها بالكيفية التي ستكون عليها حياة المعارضين إذا ما وصلوا إلى يد قوات الأسد، وهو ما حدث بالفعل مع بعض من عادوا، وصولًا إلى انتحار اللاجئ السوري أنس علي المصيطف تفاديًا لترحيله ووقوعه بيدهم.
إلا أن الطريقة واللهجة التي يستخدمها عدد لا يستهان به من اللبنانيين، وبشكل متكرر، حين يقاربون موضوع اللاجئين، تعكس طابعًا ومقاربة عنصرية وفوقية تفتقر إلى أبسط شروط التعاطف الإنساني وتتعارض مع شرعة حقوق الإنسان. خصوصًا أنه لا يمكن تبرير العنصرية بأي حجة، ناهيك عن الخلط الرهيب النابع من المماهاة بين العنصرية والوطنية. فالاستسهال بالانزلاق إلى هكذا نزوع، يدل على أن الحاجة باتت ملحة لاتخاذ إجراءات تحمي اللاجئين وتحد من حالات التوتر السائدة، وتنظر بكيفية معالجة الوضع بأكمله بضمانات وحماية دولية.
عدد اللاجئين السوريين الذين يبحثون عن أي علاج لملفهم بات أكثر من السابق، لأنهم يبحثون عن إمكانية تخلّصهم من شر الحملات المتغطرسة التي تخاض ضدهم
لكن الأمر بعيد كل البعد عن "فشة الخلق" التي يسارع بعض اللبنانيين، وأحزابهم، إليها. سواء لناحية الاستقواء على من لا حول لهم ولا قوة، وعلى فقراء ومضطهدين مهددين بالموت في بلادهم، هربوا طلبًا للنجدة والأمان في لبنان، بالتزامن مع حملة تلفيق الاخبار والارقام الكاذبة والمضلّلة عن أعدادهم وانتشارهم.
بالإضافة إلى ملاقاة بعض السوريين لهذا المنطق، ومسارعتهم نحو تصوير ونشر فيديوهات لم يساعد ما تحويه من فوقية وعنصرية مضادة تحقيرية بحق اللبنانيين بتخفيف الاحتقان، بل زادته وساهمت في تقويته. ناهيك عن التقارير الإخبارية اللبنانية التي تتقصّد لغة التعميم والتضليل، بهدف تشتيت انتباه اللبنانيين عمن يتحملون مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم، وتصوير الأمر وكأن اللاجئ يأخذ من أمامهم ويستحوذ على رزقهم في ظل هذا العوز والانهيار الذي يعيشونه. دون أن يعيدهم ذلك إلى حقيقة أن غياب المحاسبة في لبنان تاريخيًا، وغياب المسؤولين النزيهين والوطنيين، وقيادة البلاد من شبكات طائفية ميليشياوية، هو الذي أدى إلى ما يحدث اليوم، سواء في ملف اللاجئين، أو في ملفات لبنان الداخلية التي لا علاقة للاجئين بها، من الفراغ في رأس الدولة، إلى الانهيار المستمر في سعر صرف الليرة أمام الدولار، إلى نهب أموال المودعين في المصارف، إلى الامتناع عن وضع الخطط الإصلاحية الجدية والمجدية، والتي ساهمت في تعميقها عمليات تهريب الأموال والطحين والأدوية والمحروقات تجاه الأراضي السورية خلال كل الفترة السابقة، تحت أعين الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية والسورية على طول الحدود.
من المؤكد اليوم أن عدد اللاجئين السوريين الذين يبحثون عن أي علاج لملفهم بات أكثر من السابق، لأنهم يبحثون عن إمكانية تخلّصهم من شر الحملات المتغطرسة التي تخاض ضدهم. علمًا أن اللاجئين من حقهم العودة إلى منازلهم وقراهم وأراضيهم التي صادرها النظام وحزب الله وغيره من ميليشيات إيرانية، وغيرها من القوى المنتشرة على الأراضي السورية، وهذا لا يختلف عن رغبة وحق أي شعب عانى الويلات وتعرض لأسوأ الحملات جرّاء اضطراره الابتعاد عن بلاده. فكما أن اللبنانيين سارعوا بالعودة إلى أراضيهم بعد الحروب المختلفة التي خيضت عليهم، وآخرها حرب تموز عام 2006 حين لجأ اللبنانيون إلى سوريا وبيوت السوريين الذي ينكلّون بهم اليوم، كذلك الحال بالنسبة للسوريين الذي يشتاقون إلى بلادهم وإلى بعض النسيم السوري الذي حُرموا منه منذ بداية بطش القوات الأسدية بهم بعيد انطلاق الثورة. لكن هذا لا يبرر، ولا يستدعي، مخاطرة هؤلاء بأنفسهم وبحياتهم والتوجه نحو المجهول، ليس لشيء إلا لأن بعض اللبنانيين طاف كيلهم بمقاربة غير سوية ولا حقيقية لمأساة لبنان التي تتحمل أحزابهم وزعاماتهم مسؤوليتها، فيخوضون معركة مزيفة بحق اللاجئين لا علاقة لها بكل أخلاقيات المعارك. كما وأنه ليس من صالح اللبنانيين عودة اللاجئين بدون ضمانات وتسويات دولية، ووضع أنفسهم بمعارضة واضحة وصريحة لما تنص شرعة حقوق الإنسان عليه، لناحية تمييز اللاجئين عن غيرهم (بعض السوريين سقطت عنهم هذه الصفة، خصوصًا أولئك الذين يترددون إلى الأراضي السورية ذهابًا وايابًا دون مواجهة أي مشكلة)، الشرعة التي تنص على حقوقهم وعلى واجبات الدولة التي لجأوا إليها تجاههم. هذا بالتزامن مع حاجة اللبنانيين، ومصلحتهم، القاضية بوقف التوتر مع المجتمع والشرعية الدولية (بمعزل عن جدواها)، بعد كل هذا الانهيار الذي يعيشونه ويتعاملون معه، وبعد انكشاف وضعهم أمام الجميع، وصولًا إلى عدم رغبة أي دولة في مساعدتهم دون إصلاحات جدية.
ومن ناحية الأموال التي تحولها المنظمات الدولية إلى اللاجئين، فلم تتضّح مشكلة اللبنانيين في ذلك حتى اللحظة، ولماذا الإصرار على افتراض أن الأموال من حقهم وها هي تحوّل اليوم إلى اللاجئين؟ وهو كلام غير صحيح. فأي متابع يعلم أن المال المحوّل للاجئين هو الذي يحرك جزءًا لا يستهان به من العجلة الاقتصادية اللبنانية بعد شح التحويلات والمنح والمساعدات المالية للبنان، والشح الذي تتحمل السلطات اللبنانية مسؤوليته ولا علاقة للاجئين بالأمر. كما وأن المنظمات غير الحكومية تنشط على خط اللاجئين، وتؤمّن الكثير من وظائف وفرص العمل للبنانيين، وتساهم أيضًا في العجلة الاقتصادية، في حين أن القابعين في السلطة لا يبحثون إلا عن مصالحهم الفردية. وبهذا الصدد، يمكن متابعة نتائج الجولات التي يقوم وزير التربية اللبناني بها، كما جولات رئيس الجامعة اللبنانية، كما المفاوضات مع صندوق النقد... الخ، كلها توضّح المأزق الذي يتموضع لبنان فيه ورفض الدول لتقديم أي مساعدة من دون أي إصلاح حقيقي، هذا دون الحاجة إلى الإشارة إلى علامات الاستفهام الكثيرة حول مصير الأموال التي تم تحويلها إلى السلطة اللبنانية بهدف تغطية تعليم اللاجئين، والتي امتدت يد العبث إليها. كل هذه الشواهد تُظهر مسؤولية السلطة في لبنان عن كيفية الإخفاق في تجيير أي معطى لصالح اللبنانيين، والاكتفاء بالبحث في كيفية الاستفادة الخاصة منه، والتي يأبى الحاملون على اللاجئين اليوم تذكرها.
يمكن اعتبار الحملات العنصرية التي تخاض بحق اللاجئين السوريين في لبنان كمجموع ضغوطات تبتز السلطة اللبنانية المجتمع الدولي بها. وقد تكرر السلوك ذاته في السابق
يمكن اعتبار الحملات العنصرية التي تخاض بحق اللاجئين السوريين في لبنان كمجموع ضغوطات تبتز السلطة اللبنانية المجتمع الدولي بها. وقد تكرر السلوك ذاته في السابق. هي محاولات تستخدمها السلطة لعدة أهداف، أبرزها هو تشتيت انتباه اللبنانيين عن العقم والمراوحة في حالة البلاد والفضائح التي تتالى واعتماد طريقة لشرذمتهم وإلهائهم إما بالملف الطائفي وإما بملف اللاجئين. وفي الحالتين، لا استفادة لمجمل الشعب اللبناني. لأن الاستفادة من رضوخ الجهات الدولية سيصب بمجمله في صالح الطبقة اللبنانية الحاكمة، بما لا يخدم معالجة ملف اللاجئين من ناحية، ولا يقصّر من عمر الطبقة المسؤولة عن كافة الكوارث التي يشهدها لبنان. ألا يعزّز هذه القراءة غياب لبنان عن الاجتماع التشاوري الذي عُقد في عمّان في 1 أيار/مايو 2023، وبحضور ممثل عن النظام السوري، للنظر في ملف اللاجئين؟ أم هل أن الاكتفاء بتسعير هذه الحملات الشعبوية والعنصرية هو لمعالجة الملف بشكل علمي، أم لغايات استغلالية أخرى باتت أكثر وضوحًا في كل سلوكيات السلطة؟
لقد اكتفينا في لبنان من الرؤوس الحامية التي تبث هذه الخطب والشعارات الشعبوية، والتي يمثل المحافظ بشير خضر رأس حربتها اليوم، وصولًا إلى الخطب الفاشية المنتشرة بالتوازي معه. فهذه الخطب، وهذه العناوين والشعارات اليمينية، لعبت دورًا أساسيًا في إيصال لبنان إلى الانهيار الذي نحن فيه. وذلك بعد أن عوّمت، وفي مختلف المناسبات، الشبكات المرتبطة بالنظامين، من خلال تحميل المسؤوليات، جهرًا أو سرًا، للفئات الأضعف في لبنان وفي سوريا.