أنفق المنقب وعالم الأثار السويسري شارلي بونيه، نحو 50 عامًا من عمره في السودان وهو يبحث عن سر غامض تحت الدهاليز والدفوفة القديمة، حتى تمكن أخيرًا من فض لغز الفراعنة السود.
أنفق المنقب وعالم الأثار السويسري شارلي بونيه، نحو 50 عامًا من عمره في السودان يبحث عن أصول حضارته القديمة
في العام 1964 تسلل شارلي بونيه -وهو فتى غض الإهاب وقتها- إلى ضفاف النيل شمالًا، في مغامرة تاريخية امتدت عبر طرق وعرة وصحراء قاسية أشبه بحمامات الشمس، دون أن يستسلم إلى نصيحة أساتذته وقتها: "لا تضيع وقتك، لن تحصل على شيء في السودان".
اقرأ/ي أيضًا: إرث النبي موسى والخضر وأصحاب الكهف.. السودان مختلف على تاريخه
لكن تلك المغامرة أفضت بعد ذلك إلى أعظم كشف أثري في بلاد النيلين، أبهر العالم، وللدقة، جعل السودانيين يدركون قيمة البلاد التي يعيشون فيها. إذ لم يكن أحد يأبه له آنذاك، لكنه أصبح اليوم وجهًا بارزًا في مجلة الكشوفات السودانية، إلى درجة مطالبة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، بتخصيص أحد الأهرامات السودانية قبرًا يدفن فيه بونيه، عرفانًا لجهوده.
العودة المفاجئة لمكتشف الفراعنة السود
قبيل ذلك تنبغي الإشارة إلى وجه الغرابة الأبرز في الشهر الماضي، حيث فاجأ المنقب السويسري شارلي بونيه ضابط الجوازات السوداني في مطار الخرطوم، وهو يطلب الإذن بالعبور إلى الداخل، بعد أن غادر البلاد في ظروف عصيبة. وكانت غيمة من الحزن غطت سماء السودان عندما واجهه الأطباء بمرضه المفضي للموت حتمًا خلال عامين، نتيجة تراكم البروتين في قلبه، لا سيما وأن عمره لا يسمح له بالجراحة التي استبعدها الفريق الطبي المعالج لاحقًا.
وتمكن شارلي بونيه بإرادة قوية من التغلب على المرض، وكللت رحلة العلاج في سويسرا بالنجاح نسبيًا، والسماح له بالعودة واستئناف مسيرته إلى "دوكي جيل"، وفض لغز إرث الفراعنة السود ملوك كرمة العظماء، والتي انتبه لها العالم بأن الفترة من 2500 وحتى 1450 قبل الميلاد، شهدت حضارة عريقة.
نحن الآن في منطقة الكرو، أو ما يسمى بالمقبرة الملكية، وهي واحدة من الأماكن القليلة حيث يحفر شارلي بونيه بحثًا عن الأدلة الغامضة والتاريخ المجهول للشعب الكوشي.
في الأزمنة القديمة كانت مدينة نبتة، معقل الإمبراطورية الكوشية التي خضع لها الدلتا والشريط النيلي وكامل الجغرافيا المحيطة، وما يبدو الآن من صخور وكباش مصفوفة بين جبل البركل نحو النيل، ليست محض تلالٍ رملية، وإنما هي أطلال قبور الملوك الكوشيين الذين حكموا مصر ذات مرة، لكنهم الأن أصبحوا منسيين بالكامل تقريبًا، ويحاول شارلي بونيه نفخ الحياة في هذه الحضارة وإعادتها للأضواء مجددًا، وسط عاصفة من الجدل التاريخي.
كشوفات وجدل تاريخي
صور أزهار اللوتس على جدران المقبرة والنقوش الذهبية ومعبد الإله آمون رع ورأس الكوبرا المقدسة، وصور ملوك نبتة؛ كلها ترمز لحضارة باذخة منذ 300 سنة قبل الميلاد، تعرضت للتخريب وتغلبات الطبيعة ولصوص الآثار الذين سرقوا كنوز الملكات ودمروا كل شيء.
وقبل أعوام قليلة، أعلنت البعثة السويسرية الفرنسية السودانية المشتركة، اكتشاف بوابة نوبية أثرية كبيرة في موقع "دكلي قيل" بمنطقة كرمة بالولاية الشمالية. وهذه البوابة التي باتت حديث العالم، شُيدت من طوب اللبن بارتفاع 100 متر، ما يجعلها واحدة من أكبر البوابات المعروفة في التاريخ.
وقالت البعثة إن ذلك الاكتشاف العظيم، سوف يُسهم في توضيح عمق الحضارة السودانية والأفريقية، ما يؤكد أن كرمة أول مملكة سودانية مستقلة تمكنت منذ القدم من توحيد كل كيانات الشعب السوداني بكل إثنياته، تحت تاج واحد.
البحث عن الفراعنة السود
البحث عن الفراعنة السود هو عنوان الرحلة التي دفعت شارلي بونيه لامتطاء ظهور الدواب والمراكب المتهالكة، من أجل الوصول إلى منطقة كرمة التاريخية في شمال السودان. وكانت بداياته قبل ذلك بكثير، حيث تحول من فلاح إلى عالم آثار بمحض الصدفة، بعد أن عثر على آثار رومانية في مزرعته العائلية. وانتقل ضمن ثلاثة أصدقاء جامعيين، قرروا مواصلة المغامرة الأكاديمية، بالقيام بأبحاث أثرية في مصر أولًا، ثم تطورت الفكرة للقيام بذلك في السودان، لكنه هو الوحيد الذي آثر البقاء.
وغير بعيد عن تلك الدفوفة في المجمع السكني القديم، يعمل البروفيسور شارلي بونيه، الذي يؤمن بأن العلاقة بين الفراعنة والكوشيين ذات أعماق بعيدة، أملتها المصالح الاقتصادية والأمنية. وأكثر ما أدهش الرجل، أنه اكتشف جنبًا إلى جنب معاهد فرعونية مصرية وأخرى كوشية أفريقية، وهنا حاول شارلي بونيه أن يفض مسار الاشتباك، ليتضح له أن الفراعنة المصريين جاؤوا بحثًا عن الذهب والعاج، لكن الكوشيين اتجهوا بعيدًا حيث أسسوا مملكة نبتة، فازدهرت وقويت.
وبعد ذلك عثر شارلي بونيه على التماثيل السبعة لأشهر ملوك نبتة "تهارقا" و"بعانخي" و"ألارا" و"كاشتا" و"تانوت أمون" و"أسبلتا"، مدفونة في الدفوفة القديمة، والتي اعتبرها شارلي بونيه شاهدًا على المقدرات العلمية والمعرفية والمعمارية لأهل تلك الحضارة. كما أشار إلى أن الدفوفة هي أماكن عبادة، تم بناؤها بطريقة دائرية الشكل، من الطوب اللبن.
الشغف بالحقيقة الضائعة
وقبل شارلي بونيه جرت محاولات عديدة لمعرفة أسرار الملوك الذين استخدموا الذهب والحصى لغزو مصر القديمة حتى دانت لهم. وعلاوة على الفجوات الزمنية الضائعة في تسلسل حقبة الحضارة النوبية، والتحديد القاطع لأصحاب القبور؛ كان ثمة شاهد بالفعل ينظر إليه المنقب السويسري، يتمثل في حجم وروعة المدافن الملكية، والتي تعكس ثراء تلك الحقب البعيدة، والإمكانيات الهائلة التي حازتها.
وفي عام 2014، أقامت إدارة المشروع القطري السوداني للآثار، التابع لهيئة متاحف قطر، حفلًا لتكريم شارلي بونيه في متحف الفن الإسلامي، بمناسبة مرور 50 عامًا على بدء عمله في السودان للتنقيب عن حضاراته العريقة، والكشف عن عمق إسهاماتها.
قبل ذلك كان شارلي بونيه مدفونًا في الرمال، لا أحد يعبأ به، فقط يزوره الأهالي من منطقة مروي شمالًا، ويبذلون له الهدايا والمحبة، وهو بدوره ألِفهم وأتقن اللهجات المحلية ونسج شبكة صداقات حميمة. وفي الوقت نفسه أيضًا كان يبحث عن الشيفرة السرية لأجدادهم، ويعمل جاهدًا لإعادة الاعتبار لهذه البلاد، دون أن يتلقى أي دعمٍ من الحكومة السودانية، مكتفيًا بتمويل جامعة جنيف التي يعمل لصالحها.
التماثيل السبعة العظيمة
ظل شارلي بونيه دائمًا يردد بين يدي الحضارة النوبية: "إنها حضارة أسطورية غير معروفة بما فيه الكفاية"، وهو يعلم تمامًا، أن النوبيين استطاعوا بسط نفوذهم على كامل منطقة النوبة وعلى مناطق في مصر، وصدوا هجمات الآشوريين.
كما أن شارلي بونيه ينقب في إحدى أكبر مقابر ما قبل التاريخ، ويحاول ما وسعه من جهد ترميم معالم نبتة القديم، ليحقق أكبر إنجاز في تاريخ السودان، وتاريخه الحافل بالمغامرات الكشفية، ساعة أن وضع يده على التماثيل السبعة لما عرف فيما بعد بـ"الفراعنة السود"، ليعود الآن ويكلل جهوده بالعثور على أكبر بوابات التاريخ، ما يؤكد أن كرمة، تلك القوة الضاربة، هي في الحقيقة أول مملكة سودانية مستقلة، أو بالأدق هي أصل السودان القديم.
مدفوعًا بما يؤمن به وهو يبحث في آثار المنطقة، ظل بونيه يردد دائمًا أن الحضارة النوبية "حضارة أسطورية غير معروفة بما فيه الكفاية"
وبهذه الاكتشافات، والعودة الأخيرة يوم الخميس الماضي؛ يفصح شارلي بونيه عن وجوده المثير للجدل، ويفتح شهية المولعين بالمعرفة. فما الذي يبحث عنه بونيه بالتحديد هذه المرة، ولا يمل في سبيله من الغوص داخل أعماق الأحجار والرمال القاسية؟
اقرأ/ي أيضًا: