كان لوقوع أحداث تاريخية عديدة في منطقة جغرافية صغيرة مثل قطاع غزة أثر كبير في خلق بيئة ملأى بالتحديات، على مختلف النواحي الإنسانية والاجتماعية والسياسية، لما في ذلك من تأثير على سكان القطاع من حيث النزوح، وتعقّد الظروف المعيشية العامة، واضطراب الاستقرار الاقتصادي، وسوء الخدمات. ليأتي الحصار الإسرائيلي الطويل ويفاقم الوضع الإنساني ويوصله إلى حدود قصوى، هذا طبعًا إلى جانب حروب وحملات عسكرية لا تتوقف، أشدها شراسة العدوان الإسرائيلي القائم الآن.
إلا أنّ المقابل لهذا العسف كله هو أن هذا الواقع ساهم في تطور قدرة الناس على الصمود والتحدي، وكذلك على التكيف مع الظروف بالغة العنف والقسوة، إلى جانب بروز رؤية قوية وواضحة للهوية الوطنية الفلسطينية.
ولأن تاريخ هذه البقعة هو سلسلة متواصلة من الأحداث التي ترتبط ببعضها البعض ارتباطًا عضويًا، لا بد لنا من استعادة سياقاته بأكثر من شكل، وبأكثر من طريقة، كي لا تغيم الرؤية، وحتى يبقى تاريخ القطاع واضحًا في عقولنا، سواء من جهة خصوصيته المحلية، أو من جهة ارتباطه بالتاريخ الفلسطيني العام.
1- حكومة عموم فلسطين
أنشأت جامعة الدول العربية حكومة عموم فلسطين في 22 أيلول/سبتمبر 1948، خلال الحرب لتنظيم الجيب الذي تسيطر عليه مصر في غزة. وسرعان ما اعترف بها جميع أعضاء الجامعة العربية، باستثناء شرق الأردن.
بعد مباحثات متوترة بين الهيئة العربية العليا، التي كان يتزعمها المفتي الحاج أمين الحسيني، وبين جامعة الدول العربية، أُعلن قيام حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، مؤسس بنك الأمة في فلسطين.
غير أن الملك عبد الله قاوم إعلان هذه الحكومة وحاول عرقلة تكوين هيئاتها التمثيلية. فبادرت هذه الحكومة، بالتعاون مع الهيئة العربية العليا، إلى عقد مؤتمر وطني فلسطيني في غزة في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1948، وفي هذا المؤتمر جرى تأكيد شرعية حكومة عموم فلسطين، وأعلن المؤتمرون استقلال فلسطين بحدودها المعروفة قبل 15 أيار/مايو من العام نفسه، وإزاء ذلك سارع الملك عبد الله إلى حثّ أتباعه ودفع أعوانه إلى عقد مؤتمر نقيض لمؤتمر غزة، وتمكن محمد علي الجعبري، رئيس بلدية الخليل وقتذاك، من عقد مؤتمر أريحا الذي أعلن وحدة الضفتين ونادى بالملك عبد الله ملكًا على فلسطين.
ولم تكد تمضي أيام قليلة على عقد المؤتمر الوطني الفلسطيني في غزة، حتى عمدت السلطات الملكية المصرية إلى نقل الحاج أمين الحسيني، بالقوة، إلى القاهرة، ثم ألجأت، بالطريقة نفسها، رئيس حكومة عموم فلسطين والوزراء إلى القاهرة. وهكذا انتهى أمر هذه الحكومة بعد أسابيع من قيامها.
وعلى الرغم من بقائها هيئة شكلية في القاهرة، واحتفاظها بمقر لها في العاصمة المصرية وبميزانية لم تتجاوز 7500 جنيه تصرف من ميزانية جامعة الدول العربية، فإنها عاشت، بقوة الاستمرار، حتى تلاشت مع قيام منظمة التحرير الفلسطينية.
2- العدوان الثلاثي على مصر: الاحتلال الأول
قامت "إسرائيل" بسلسلة من العمليات الانتقامية ضدّ عمليات تسلُّل الفلسطينيين من غزة، وفي نهاية آب/أغسطس 1953، هاجمت وحدة إسرائيلية يتزعّمها مجرم الحرب إرييل شارون مخيم البريج للاجئين في القطاع وقتلت 50 فلسطينيًا على الأقل. وفي عامي 1955 و1956، أطلقت هجمات واسعة النطاق على قطاع غزة، أودت أولاها، وكانت في 28 شباط/فبراير 1955، بحياة ثمانية وثلاثين شخصًا. ومع ذلك، واصل الفلسطينيون الفدائيون مقاومتهم، وأشرفت الحكومة المصرية في سنة 1955 على تدريب الفدائيين العاملين انطلاقًا من غزة وشرق سيناء.
ومع بدء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي قادته بريطانيا وفرنسا والكيان الإسرائيلي، قتلت القوات الإسرائيلية 275 فلسطينيًا في بلدة خان يونس في قطاع غزة، وبعد انتهاء الاقتتال، قامت "إسرائيل" بقتل 110 فلسطينيين آخرين في رفح، على الحدود بين غزة ومصر، وخلال انسحابها من سيناء، دمّر الجيش الإسرائيلي البنية التحتية في المناطق التي احتلّها.
بعد أشهرٍ من فشل العدوان الثلاثيّ، انسحب جيش الاحتلال من القطاع ودخلته قواتٌ دوليّة، واحتفل الغزيّون بجلاء الاحتلال وأطلقوا على أحد أهمّ شوارع القطاع اسم "شارع الجلاء".
3- تأسيس جيش التحرير الفلسطيني
في سنة 1954 – 1955، أنشأت السلطات المصرية جيشًا فلسطينيًّا، وكانت مدينة خان يونس مقرًا له، وأبلى هذا الجيش في مقاومة الاحتلال عام 1956، وحين تأسست منظمة التحرير الفلسطينية أعيد تنظيم هذا الجيش وزيد عدد قواته وسمي "جيش التحرير الفلسطيني".
بعد موافقة مؤتمر القمة العربية الثاني 5-11 أيلول/سبتمبر 1964 على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا للشعب الفلسطيني، أقرت القمة قرار منظمة التحرير الفلسطينية بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، وأعلنت عن تأسيسه في 10 أيلول/سبتمبر عام 1964.
اعتبرت المنظمة العاشر من أيلول/سبتمبر تاريخًا رسميًا لتأسيس جيش التحرير الفلسطيني، وبدأت الاستعدادات في غزة وسوريا والعراق لفتح معسكرات التدريب، وقبول الشبان الفلسطينيين المؤهلين علميًا لاتباع دورات عسكرية في الكليات العسكرية.
وخُطط لجيش التحرير الفلسطيني أن يضم ثلاث قوات: قوات حطين في سوريا، وقوات عين جالوت في مصر وقطاع غزة، وقوات القادسية في العراق.
4- احتلال القطاع عام 1967
كانت خطة جيش الاحتلال الإسرائيلي أن تصل قواته بأسرع ما يمكن إلى مفترق خان يونس، ومنه تستمر في الهجوم والتقدم نحو الشمال، بحيث تنجز في يوم واحد بلوغها إلى المنطار وغزة المدينة.
وشملت الخطوة الثانية سيطرة سريعة وخاطفة على دير البلح واحتلال محيط منطقة المنطار. ونفذت القوات الإسرائيلية عمليات مجازر وقتل، وهدمت كل ما اعترض طريقها.
وجددت القوات الإسرائيلية المُهاجمة قصفها على معظم مدن وبلدات القطاع في اليوم التالي للمعارك، أي في السادس من حزيران/يونيو، بواسطة تكثيف نشاط وتحرك فرق المظليين والمشاة وكتائب المدرعات والمصفحات. ولكن بالرغم من حجم القوات الإسرائيلية الكبير إلا أنها لم تتمكن في اليوم الثاني للمعارك من احتلال خان يونس، جراء المقاومة الباسلة التي أظهرها الفلسطينيون وفرق من الجيش المصري كانت مرابطة هناك.
وبعد حصار قوي ومعارك عنيفة وضارية، تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من السيطرة على خان يونس وبقية مناطق القطاع حتى مساء السابع من حزيران/ يونيو.
خلال اجتماع ناقش فيه مجلس الوزراء الأمني ما يجب فعله مع السكان العرب في الأراضي المحتلة حديثًا، اقترح رئيس الوزراء ليفي أشكول أن إحدى الطرق لتشجيع الناس على مغادرة غزة، بالعودة إلى مشروع التهجير الحاضر دومًا في الإستراتيجية الإسرائيلية، قد تكون تقييد وصولهم إلى إمدادات المياه. وقال: "ربما إذا لم نمنحهم ما يكفي من الماء، فلن يكون لديهم خيار آخر". وفي أعقاب هذه المناقشة، تم تنفيذ سلسلة من التدابير بما في ذلك الحوافز المالية لتشجيع سكان غزة على التفكير في الهجرة إلى مناطق أخرى.
5- الانتفاضة الفلسطينية الأولى
كانت الشرارة الأولى لانتفاضة عام 1987 في قطاع غزة، ثم انخرط سكان في غمارها. كانت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة تقوم بتوزيع النشرات الأسبوعية في شوارع غزة مع جدول زمني للإضراب المصاحب للاحتجاجات اليومية ضد الدوريات الإسرائيلية في المدينة.
وفي المظاهرات، تم إحراق الإطارات في الشوارع، كما ألقى الحشود الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود الاحتلال. ورد الجيش الإسرائيلي بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. وأغلقت المدارس في مدينة غزة قسرًا، وفتحت تدريجيًا لبضع ساعات. ونفذت الاعتقالات خارج البيوت، وفرض حظر التجول ومنع السفر، ما اعتبره الفلسطينيون بأنه عقاب جماعي.
كانت الانتفاضة الأولى تجربة فريدة في تاريخ النضال العالمي، وكان لقطاع غزة دور أساسي في مختلف فصولها.
6- الانسحاب الأحادي 2005
انسحبت إسرائيل بالكامل من أراضي قطاع غزة في 15 آب/أغسطس 2005، بأمر رئيس الوزراء إرييل شارون، لكنها أبقت على حصارها برًا وبحرًا وجوًا.
صوّتت الحكومة الإسرائيلية على تطبيق خطة شارون للانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، وإزالة 21 مستوطنة إسرائيلية من القطاع (بالإضافة إلى 4 بالضفة الغربية) وإخراج المستوطنين والقواعد العسكرية من القطاع.
تم الانتهاء من العملية في 12 أيلول/سبتمبر 2005، بإعلانها إنهاء الحكم العسكري في القطاع. وقد اعتبرت منظمات حقوقية دولية أنّ "إسرائيل" هي القوة المحتلة لقطاع غزة، لأنها تسيطر على مجاله الجوي وعلى المياه الإقليمية، وتتحكم في حركة الأشخاص والبضائع إلى داخل القطاع أو خارجه.