قد لا يخفف صدمة الفراق، معرفة موعد الموت أو السبق إلى رثاء النفس ردحًا قبل مفارقة جسدها. ومع ذلك تسنى لأمجد ناصر الوقت أن يرثي نفسه، ربما من باب تخفيف الضيق من الفاجعة عن قرائه، ملقيًا عليها، أي الفاجعة، آخر نظرة، قائلًا: "إن كنت رجلًا، فاخرج إلي من مكمنك".
قد لا يخفف صدمة الفراق، معرفة موعد الموت أو السبق إلى رثاء النفس ردحًا قبل مفارقة جسدها. ومع ذلك تسنى لأمجد ناصر الوقت أن يرثي نفسه
رحل بالأمس أمجد ناصر بجسده، وظل أثره باقيًا ينطق. موته، وبقاؤه، مفارقة تُحيل إلى شخص ولد مرتين: الأولى في "المفرق" البلدة الأردنية شمال البلاد، سنة 1955، لأسرة بدوية، واسم غادره لاحقًا، هو: يحيى النميري النعيمات.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل أمجد ناصر.. مرتقى أنفاس الشاعر
وولادة ثانية في بيروت التي كانت مستعرةً حربًا، فكان اسمه من لهيبها: أمجد ناصر. وكما يقول الشاعر السوري تمام هنيدي: "عاش أمجد حياته حمايةً لحياة يحيى النعيمي أولًا".
ولادات متعددة
وفي بيروت، عمل أمجد ناصر في دوائر المقاومة الفلسطينية، بالنضال الثقافي والإعلامي، في جريدة الهدف وفي إذاعة فلسطين، إبان حصار المدينة.
ولمّا اجتاحت القوات الإسرائيلية قلب بيروت، غادرها أمجد مع الركب الجنائزي للمهجّرين، عائدًا إلى عمان ثانيًا؛ موطن يحيى النعيمي، ومنفى أمجد ناصر!
ولعل ما ينطبق على قصة أمجد ناصر، مقولة نيقولاي أوستروفسكي: "الحياة أعز شيء للإنسان. إنها توهب له مرة واحدة، فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنين التي عاشها، وليستطع أن يقول، وهو يحتضر: كانت كل حياتي، كل قواي، موهوبة لأروع شيء في العالم: النضال في سبيل تحرير الإنسانية".
ومن عمان في العودة من بيروت، انتقل ناصر إلى قبرص، ومنها إلى لندن. وفي لندن، التي أقام فيها منذ 1989، عاش اغترابًا آخر: "حيثُ رَفْعُ الصوت بلغةٍ عربية ذات جرس حاد، يُشكّلُ اعتداء على أذن الآخر"، كما قال بنفسه في "خبط الأجنحة". وهناك، في لندن، واصل ناصر اشتغاله بالصحافة عبر جريدة القدس العربي التي اشترك في تأسيسها، مديرًا لنشرها.
إبداع تناقضات الرحلة الذاتية
أبدعت قريحة أمجد ناصر تسع مجموعات شعرية، منها: "مديح لمقهى آخر" (1979)، و"منذ جلعاد كان يصعد الجبل" (1981)، و"سُرَّ من رآك" (1994) و"مملكة آدم" (2019)، و"هل غادر الشعراء؟" والتي تنتظر نشرًا لم يمهل الموت صاحبها. وله روايتان: "حيث لا تسقط الأمطار" (2010) و"هنا الوردة" (2017).
وتبدو في شعرية أمجد ناصر اتساق مع سيرته بتناقضاتها: منافيها واغتراباتها. ومن صلب هذا الجدل يخرج فيضه المتفرد، متخدًا قصيدة النثر بنية لنصه في تماهي مع اللحظة الحاضرة لفعل الكتابة، وما تعلنه من انقلابية عما مضى (القصيدة الموزونة).
ويقرأ في شعره التحرر من الغنائيات الوطنية والهويات الأيديولوجية، دون تملص من المشاركة في الذاكرة/الأنا التاريخية، بل على العكس تحضر وبقوة، في احتفائه باليومي بلغة اليومي الواقعية بين الحاضر هنا والماضي هناك.
وبين اليومي والطارئ يحضر المرض وبعده الموت. ففي أيار/مايو الماضي، زار أمجد ناصر طبيبه لآخر مرة، أو كانت كذلك بعد أن أعلنها الطبيب: "الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدمًا للورم، وليس حدًا له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي". لم يترك له البلاء وقت إلا ليخط وداعه الأخير: "جسدي يخذلني".
"وهذا ليس جديدًا.
كان يفعل ذلك مراوغة.
الآن صريح ومباشر في مسعاه.
كلما نهضت وقعت على الأرض.
لا أستطيع أن أبقى واقفًا على قدمي ما تبقى لي من أيام.
حتى الشجرة لا تفعل.
ألم نر أشجارًا ممددة إلى جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف؟".
تبدو في شعرية أمجد ناصر اتساق مع سيرته بتناقضاتها: منافيها واغتراباتها. ومن صلب هذا الجدل يخرج فيضه المتفرد
رحل ناصر عن العالم، لكن إثبات وفاة من تكررت ولاداته أمر عصيّ، إذ من مات هنا؟ يجيب الكاتب والشاعر رائد وحش: "اليوم مات يحيى النعيمي. اليوم أمجد ناصر لا يزال حيًا".
اقرأ/ي أيضًا: