"ليس هناك شيء اسمه حرية السوق، وأغلبية الناس في البلدان الغنية تتقاضى أموالًا أكثر مما ينبغي، ولقد غيرت الغسالة العالم أكثر مما فعل الإنترنت، وسياسات حرية السوق نادرًا ما تغني الدول الفقيرة، وجعل الأغنياء أغنى لا يجعل بقيتنا أغنى".. وثمة حقائق أخرى عديدة، بالضبط ثمة "23 حقيقة يخفونها عنك بخصوص الرأسمالية"، وهذا هو عنوان كتاب الاقتصادي الشهير ها جون تشانغ.
حرية السوق ليس لها وجود، فلكل سوق بعض القواعد والقيود والحدود التي تقيد حرية الاختيار، ولا تبدو السوق حرة إلا لأننا نقبل بقيودها الضمنية قبولًا غير مشروط إلى درجة نعجز عن رؤيتها
يقول المفكر المصري جلال أمين في تقديم الكتاب، (دار بلومزبري ـ مؤسسة قطر للنشر، ترجمة محمد فتحي كلفت): "هذا كتاب مهم لكاتب موهوب وشجاع... إلى جانب الموهبة التي أهلت الكاتب للشك في صحة مثل هذه المسلمات، فإنه وجد أيضًا الشجاعة لمصارحتنا بشكوكه، كما أنه نقل ذلك بسلاسة ووضوح وظرف نادرًا أن تتوفر كلها لكاتب واحد".
وهناك لازمتان تتكرران في كل الفصول: "ما يقولونه لك"، و"ما لا يقولونه لك"، وعبرهما يمضي تشانغ في تفنيد المسلمات الراسخة التي ينطوي عليها "سفر" الرأسمالية المقدس.
يقولون لك، مثلًا، إن الأسواق بحاجة لأن تكون حرة، فعندما تتدخل الحكومة وتقرر ما يجوز وما لا يجوز أن يفعله المساهمون في السوق المالية، يتعذر تدفق الموارد. وإذا لم يُسمح للناس بأن يفعلوا الأشياء التي يجدونها أكثر ربحية فإنهم يفقدون حافز الاستثمار والابتكار.. "لا بد أن يُترك الناس أحرارًا في الاختيار"..
أما ما لا يقولونه لك فهو أن حرية السوق ليس لها وجود، فلكل سوق بعض القواعد والقيود والحدود التي تقيد حرية الاختيار، ولا تبدو السوق حرة إلا لأننا نقبل بقيودها الضمنية قبولًا غير مشروط إلى درجة نعجز عن رؤيتها. إن "الزعم المعتاد من قبل الاقتصاديين ومفاده أنهم يدافعون عن السوق ضد التدخل الحكومي المسيس هو زعم باطل. فالحكومة متورطة دائما وأولئك القائلون بحرية السوق لهم دوافع سياسية مثل الجميع".
ويرى تشانغ أن تخطي الأسطورة القائلة بأن هناك شيئًا من قبيل "سوق حرة" هو الخطوة الأولى نحو فهم الرأسمالية.
ها جون تشانغ (59 عامًا)، هو عالم اقتصاد من كوريا الجنوبية يحمل الجنسية البريطانية، متخصص في اقتصاديات التنمية، ويعمل كقارئ في الاقتصاد السياسي للتنمية بجامعة كامبريدج. وقد عمل كمستشار للبنك الدولي، ومصرف التنمية الآسيوي، وبنك الاستثمار الأوروبي، بالإضافة إلى منظمة أوكسفام وعدد من وكالات الأمم المتحدة. وهو أيضًا زميل في مركز أبحاث الاقتصاد والسياسة في واشنطن. بالإضافة إلى ذلك يعمل تشانغ في المجلس الاستشاري لمنظمة "أكاديميون يقفون ضد الفقر" (ASAP). ألف العديد من الكتب التي لاقت رواجًا كبيرًا، منها: "ركل السلم بعيدًا: استراتيجية التنمية في المنظور التاريخي". و"السامريون الأشرار: الدول الغنية والسياسات الفقيرة وتهديد العالم النامي". في عام 2013 تم تصنيف تشانغ كواحد من أفضل 20 مفكرًا عالميًا.
يؤكد تشانغ في كتبه ومقالاته على فكرة محورية، وهي أن الدول الغنية صعدت إلى السقف عبر "سلّم" محدد أثبتت التجارب أنه متين وآمن، وهي الآن تريد ركل هذا السلم بعيدًا كي لا تستخدمه الدول الفقيرة والنامية. يقول تشانغ إن خبراء "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي" ينصحون الدول الفقيرة باتباع طريق هو بالضبط نقيض الطريق الذي اتبعته الدول الغنية لتصبح غنية، وبالطبع فلا يمكن أن يكون الأمر ناج عن جهل أو سوء تقدير وحسب، فلا وجود لهذا القدر من البراءة في عالم المؤسسات الاقتصادية الدولية.
وفي كتابه هذا، "23 حقيقة.."، يعود تشانغ ليحاجج أن "حرية السوق" المطلقة، وفضلًا عن كونها وهمًا، ليست هي الطريق الأمثل لتقدم الدول الفقيرة والنامية، وأن كل الدول الناجحة فإنما غدت ناجحة لأنها اتبعت خليطًا من تدخل الدولة والحمائية وأدوات الضبط الضرورية، ولا يستثنى من ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا..
لا يكتفي المؤلف بتفنيد المزاعم الأساسية للرأسمالية وحسب، بل ويثير الشكوك حول أمور يعتبرها جميعنا من البدهيات. فهو يرى أن الغسالة غيرت العالم أكثر بكثير من الإنترنت
ولا يكتفي المؤلف بتفنيد المزاعم الأساسية للرأسمالية وحسب، بل ويثير الشكوك حول أمور يعتبرها جميعنا من البدهيات. فهو يقول مثلًا إن الانترنت أعطي أكبر بكثير مما يستحق بخصوص "تغييره الكاسح" للعالم، مؤكدًا أن الغسالة، مثلًا، غيرت العالم أكثر بكثير مما فعل الإنترنت. يقول: ".. فإن ثورة الإنترنت، من حيث التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المترتبة، لم تكن (حتى الآن على الأقل) في أهمية الغسالة وغيرها من الأجهزة المنزلية التي سمحت للنساء، عن طريق تقليل مقدار العمل المطلوب للأعمال المنزلية تقليلًا هائلًا، بأن يدخلن سوق العمل، وأنهت عمليًا مهنًا كالخدمة المنزلية".
وكذلك هو يقرر هذه "الحقيقة" الصادمة: "المزيد من التعليم في حد ذاته لن يجعل بلدًا أغنى"، ذلك أن "الأدلة قليلة بشكل ملحوظ على أن المزيد من التعليم يؤدي إلى رخاء قومي أكبر. في الحقيقة، كثير من المعرفة المكتسبة في العملية التعليمية ليس ذا أهمية لتعزيز الإنتاجية"!
ويسخر تشانغ من فكرة أننا "نعيش في عصر ما بعد صناعي"، وأن الدول النامية بإمكانها حرق المراحل واعتماد "الخدمات والتجارة" كقاطرة للنمو بدلًا من الصناعة، معتبرًا أن هذا محض خيال، إذ لا نزال نعيش في عصر الصناعة، ولا تزال الدول النامية بحاجة للصناعة أساسًا كي تنهض. كما يسخر من مقولة أن التخلف هو قدر مكتوب على أفريقيا، مؤكدًا أن "السبب الحقيقي للركود الأفريقي.. هو سياسات حرية السوق التي أجبرت القارة على تنفيذها.. وعلى خلاف التاريخ أو الجغرافيا، فإن السياسات يمكن تغييرها"، وبالتالي "ليس التخلف قدرًا مكتوبًا على أفريقيا".
يختم جلال أمين تقديمه بالقول: "كتاب أنصح بشدة بقراءته، من المتخصصين وغير المتخصصين في علم الاقتصاد". ومن يقرأ الكتاب يعرف أن أمين كان مخلصًا في نصيحته.