03-يوليو-2023
صانعة محتوى

في كانون الثاني/ يناير عام 1996، كتب مؤسس مايكروسوفت ومديرها التنفيذي حينها، بيل غيتس، مقالةً بعنوان "المحتوى هو الملك"، وفيها عبّر عن رؤيته للفرص الكامنة في عالم النشر على الإنترنت مستقبلًا، إذ "ستحرر هذه التكنولوجيا الناشرين وتجعلهم قادرين على تحصيل مبالغ صغيرة من المال، على أمل جذب جماهير واسعة" بحسب غيتس. اليوم، بعد 27 عامًا على مقالة غيتس، أصبحنا جميعًا صانعي ملوك، ولم يعد هنالك مكان للرعيّة في الفضاء الرقمي.

بداية العقد الماضي، ومع بزوغ وسائل التواصل الاجتماعي بشكلها الحالي، كانت صناعة "المحتوى" وسيلةً لغاية أسمى: الشهرة، أو الترويج لأيديولوجيا ما، أو حلمٌ بدخول عالم الإعلام. أما اليوم، فأصبحت صناعة "المحتوى" الغاية النهائية والهدف الأسمى الذي يرمي إليه مدرّبو بناء "العلامة التجارية الشخصية"، وإن لم يكن هنالك "منتج" ينطوي تحت تلك العلامة.

لو سألت طفلًا، أو حتى شابًا، منذ بضعة سنوات عن طموحه بعيدًا عن التخصصات الأكاديمية التي قد تكون مملة للكثيرين، لحصلت على الإجابة نفسها التي كنت ستحصل عليها منذ خمسين عامًا، مغني روك، أو عازف موسيقي، أو ممثل تتهافت عليه المعجبات أو حتى راقص استعراضي. لكن ذلك تغير الآن، ورغم أن تلك المهن ما زالت مغرية، إلا أنها تفرض على من يدخلها سنوات من الشقاء والتعب والحظ لتحقق ما توعد به، ومن هنا برز طموحٌ أكثر إغراءً وتصالحًا مع الجميع لا يتطلب سوى حساب مجاني وكاميرا لا تقل دقتها عن 8 ميجابايت، ولا حاجة للأخيرة في بعض الأحيان.

أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم اليوم يعتبرون أنفسهم صُنّاع محتوى، وهو مصطلح يشمل كل شيء من أصحاب قنوات اليوتيوب إلى مُعدّي ومقدمي برامج البودكاست والكتّاب والفنانين، وحتى الأشخاص الذين يبيعون الدورات التدريبية عبر الإنترنت لمن يتطلعون لأن يكونوا أيًا من هذه الأشياء.

صار الحلم الأكثر إثارة لدينا جميعًا هو الجمع بين اثنتين من أكثر الكلمات ميوعة في المعنى: "صناعة المحتوى". أليس هذا ما كنا نفعله منذ فجر التاريخ؟ أليس التنفس في جوهره "صناعة" لذرات ثاني أوكسيد الكربون التي تشكّل "محتوى" له خصائصه ومساحته؟ أوليس كل شيء -عدا المادة المظلمة- محتوى يشغل حيزًا في الفراغ؟

أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم اليوم يعتبرون أنفسهم صُنّاع محتوى، وهو مصطلح يشمل كل شيء من أصحاب قنوات اليوتيوب إلى مُعدّي ومقدمي برامج البودكاست والكتّاب والفنانين، وحتى الأشخاص الذين يبيعون الدورات التدريبية عبر الإنترنت لمن يتطلعون لأن يكونوا أيًا من هذه الأشياء، فمتى أصبح كل من في العالم على ما يبدو صانع محتوى، سواءً أدرك ذلك وأراده أم لا؟

لعل التفسير، الذي بتنا نسمعه كثيرًا في الأعوام القليلة الماضية، إذ بات سببًا لكثير من الظواهر، هو وباء كورونا، إذ  تصف بلومبيرغ قطاع صناعة المحتوى الذي تبلغ قيمته حوالي 20 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها بأنه "مقاوم للأوبئة" نظرًا لزيادة الأشخاص الذين دخلوه على مدار الأعوام القليلة الماضية زيادة جنونية، إذ دفعت الجائحة بالبعض ممّن سُرّحوا من وظائفهم حينها إلى الانتقال إلى عالم صناعة المحتوى، فيما كان الجزء الأكبر من المنتمين الجدد لهذا القطاع ممن بات لديهم متسعٌ من الوقت ليحدّقوا في شاشاتهم بسبب الإجراءات التي رافقت الجائحة. 

في نشرة بريدية أُرسلت عام 2020 حول تعريف "صانع المحتوى"، يقول هوغو آمسيليم، نائب رئيس شركة جيلي سماك الإعلامية الأميركية، إن صانع المحتوى هو شخص "يصعد من دون استئذان"، فصانعو المحتوى "يُنتَقَدون بدرجة أقل بسبب ضعف مواهبهم أو شغفهم، وبدرجة أعلى بسبب تصرفهم على طبيعتهم"، وهم في الواقع بمثابة إمبراطوريات إعلامية كاملة مكونة من شخص واحد.

منتال

يرتبط اقتصاد مُنشئي المحتوى باقتصاد العمل الحر إلى حدّ ما ولكنه يختلف عنه أيضًا، إذ يقدم كلاهما وعودًا بالمرونة و"أن تكون مدير نفسك"، ولكن الفارق بينهما هو أنه في حالة العمل الحر، فإن العامل يوافق على المشاركة بوظيفة معيّنة في نظام ما موجود بالفعل، في حين أنه لدى إنشاء المحتوى يضيف شيئًا لم يكن موجودًا مسبقًا لنظام ما. فضلًا عن أن فعل "الصنع" في تعبير "صناعة المحتوى" يبقى نشازًا ولا يحمل بالضرورة المعنى اللغوي الذي تعبر عنه المفردة أساسًا، فكثير من منشئي المحتوى من ذوي المشاهدات المليونية يعتمد "محتواهم" إما على التعليق والإيماء بالتأييد أوالرفض، أو إبداء الذهول أو الضحك على "محتوى" الآخرين، أو تصوير وبثّ لاشيء، مثل دحرجة عبوات زجاجية على الدرج أو وضع أشياء في الخلاط الكهربائي، ناهيك عن تصوير الوجبات اليومية وتسجيل أصوات مضغها. في حين أن فعل "الصنع" يحمل معاني الابتكار والفن والجمال والإتقان والخلق.

ولكن رغم ذلك، فإن السبب الوحيد لاستخدامنا هذا المصطلح لوصف هذه الشريحة من "العاملين" هو أن إحدى أكبر الشركات في العالم، وهي مستفيدة منهم، نحتت المصطلح بهذا الشكل قبل أكثر من عقد.

فبعد أن اشترت يوتيوب الشبكة متعددة القنوات "نيكست نيو نيتووركس" في عام 2011، تبنّت مصطلح "صانع" Creator  لوصف المستخدمين على المنصة. وفي هذا الصدد، يوضح تيم شي، أحد مؤسسي "نيكست نيو نيتووركس" لصحيفة الأتلانتيك قائلًا: "إن سر كل ذلك هو أن 'صانعون' كان مصطلحًا نفعيًا بحق، إذ يمكن أن ينطبق على نجم من هوليوود… أو على  'نجم يوتيوب'".

ولم تعد المنصات الأخرى تخفي مساعيها في التنفّع من المصطلح أيضًا، فشركة ميتا (المالكة لفيسبوك وإنستاغرام وواتساب) أصبحت تمنح الأحقية بالوصول لعدد أكبر من المستخدمين للحسابات المسجّلة على أنها "لصناع المحتوى الرقمي" على حساب الحسابات العادية، كما أطلقت فعاليات مثل "يوم صانعي المحتوى" و"صانعو الغد" وعشرات الحملات الإعلانية التي تحتفي بـ "صنع المحتوى"، مع اختفاء شبه كلي لدعوات الترابط ولم شمل الأصدقاء والعائلات التي قامت عليها الشركة في عقدها الأول.

كمن

ربما يكون تأثير الهالة و"الفومو" تجاه هذا الشيء الرائع الذي يتحدث عنه الجميع هي الدوافع الأساسية نحو التحول إلى "صانعي محتوى". ففهي نهاية المطاف، أليس من الأكثر أناقة أن تطلق على نفسك اسم "صانع محتوى" بدلًا من "محاسب وسائق سيارة أجرة بدوام جزئي صباحًا، ومؤثر على إنستاغرام في المساء؟ القائل يعرف هذا بالطبع، لذا بات من الملحوظ عند التعريف بأحد هؤلاء عدم تقديمه مديرًا للمبيعات، أو مسوّقًا رقميًا، أو مُدرّسة سابقة، أو طالب إدارة أعمال، بل أصبحوا جميعهم صانعي محتوى، وربّما نحن جميعًا كذلك.

وقد يكون الدافع لهذا التحول لدى تلك الشركات أكثر وضوحًا، فهي في النهاية إمبراطوريات اقتصادية تضاهي في ميزانياتها دولًا كبرى، وتسعى للمزيد دومًا، فـ "المستخدمون" مجانيون، أما "الصانعون" هم وقود نموذج الإعلانات التي تقوم عليها تلك الشركات.

بلغ هذا الهرج أوج سخريته في حادثةٍ لم تفارقني منذ أشهر انطوت على عدة طبقات من السخرية، وذلك عندما نشر أحد أشهر مدربي "صناعة المحتوى" في المنطقة مُخرجات دراسةٍ أعدتها شركة أدوبي الأمريكية المالكة والمطورة لأشهر التطبيقات الإبداعية المتعلقة بتحرير الصور والفيديو، والتي أقرّت، بحسب استطلاعاتها وتحليلاتها بوجود مستقبل مبشّر لصناع المحتوى، واستثمارات مليارية قادمة، وسعادة وهناء رغيدين ترافقهما حساباتٌ بنكية ممتلئة.

فإن كانت مخرجات تلك الدراسة مقنعةً لأحد المتلقّين، سيكون زبونًا لدى المدرب لينهل من مواده التدريبية، وإن تجاوز تلك التدريبات بنجاح، وأصبح مؤهلًا ليبدأ "صناعة المحتوى" بنفسه، فقد غدا زبونًا يحتاج منتجات شركة أدوبي -المُعدّة للدراسة اليوتوبية- مهما كان محتواه، فالمكاسب مزدوجة، والخاسر الوحيد هو مستخدم يراوغ الخوارزميات ويحاول إبطاء مدّها وفهمه مع كل دخولٍ إلى هذا العالم الافتراضي.