"الدم لا ينام، والأبيّ لا يُضام" (مثل عربي)
سنقف كثيرًا عند مشاهد مجزرة المعمداني. سندعوها "المجزرة الكبرى". سيقول آخرون "مجزرة القرن". المحررون على النسخ المختلفة من ويكيبيديا سيختلفون على الصياغة، وسيرتبكون وهم ينظرون في عناوين الإعلام الغربي المتحفّظ والموضوعي حدّ التواطؤ مع الجريمة. شبيبة الهاسبارا الإسرائيلية سيتدخّلون فورًا، كما فعلوا في السابع من أكتوبر، ونثروا الكذب والتضليل بشأن الأطفال وفرية الدعشنة وتقطيع الرؤوس. أما في النسخة العربية من الموسوعة، فربما يتأخر المقال هذه المرّة. كثير من الأصدقاء الغزيين النشطين في تغطية الشأن الفلسطيني عليها باتوا في عداد الشهداء، أو انشغلوا بمن مات.
هذا الإجرام سليل النكبة الأولى ومشروع الاستيطان الإحلالي الذي لم ينته. عام 1948، كان الذبح والترحيل والتطهير العرقي إستراتيجية صهيونية رسميّة، تمامًا كما هي اليوم، جرت وفق خطة مفصّلة، ولم تشكّل لقادة الاحتلال حينها "أية معضلة أخلاقية". وُضع الأساس الأيديولوجي لاعتمادها، وعدّها مؤرّخو الدولة "حالة تاريخية نادرة يمكن اعتبار التطهير العرقيّ فيها مسوّغًا"، ما دام أن الأرض لا بد أن تكون "نقيّة" لليهود حصرًا، وما دامت الذريعة التبسيطية للإجرام المفتوح قائمة "أن نُبيد أو نُباد"، وما دامت آلة الدعاية والإعلام مستعدّة للتضليل وتشويه الحقائق والتلاعب بالسرديّات لصالح الأقوى.
إنّها لعنة النكبة الأولى. بعد التطهير العرقي الكبير الأوّل، وما تبعه من تطهير سياسي وثقافي متواصل، لم يشغل الدولة الصهيونية شيء أكبر من البحث عن ذاتها وشرعيّتها، وتأصيل وجودها في محيط هي منبوذة فيه، وطبعنته في سياق تاريخي من حركات الاستقلال والتحرر من الاستعمار، ونسيان أنّها دولة استيطان قامت على طرد السكّان الأصليين بالجملة وقتلهم. لجأت الصهيونية إلى الأكاديميا والإعلام والدعاية العامة وجماعات الضغط، لتبرير ذاتها وعلاج العطب الجوهري الذي يمسّ سبب وجودها وآثاره المدمّرة التي لم تنقطع بالمرّة، على نحو يجعل النسيان الجماعي مستحيلًا. حتى "المجتمع المدني" فيها، ظل يبحث عن حكاية متماسكة، سرديّة ما ذات شرعيّة حديثة مثل غيرها من الدول، فاختُرعت سرديّات ورموز ومتخيّلات درامية، ووُظّفت أدوات الدولة الحديثة في ترسيخها جيلًا بعد جيل، وكانت جميعًا قائمة في الحرب والعنف ولا تعدو عن فبركة مستمرّة لصناعة العدو، والإغراق بلا حدود في التطرّف الديني التوراتي، والاستثمار بالحد الأقصى في الصبغة الدينية كهويّة للدولة اليهودية، إلى جانب التذكير بالتهديد الوجودي المحيق بها، كثنائية ثابتة في الدعاية الرسميّة الإسرائيلية منذ عقود.
إنّها لعنة النكبة الأولى والإبادة التي لم تكتمل. كل مجزرة جديدة إنّما تذكّر بالجريمة الكبرى التي سعت إسرائيل لمحوها من ذاكرة العالم وركنت إلى إمكان "النسيان الجمعي" لطرد الفلسطينيين من أرضهم عام 1948، وتقول إن القضيّة ما تزال قائمة وغير محلولة، وأن معاناة الفلسطينيين بدأت منذ 75 عامًا، وأن مأساة الناس في غزّة لم تبدأ من العام 2007، بل بدأت هناك، على الأرض كلّها. وكلّما تخندقت إسرائيل في صورتها المتخيّلة كطرف وحيد يستحق التعاطف وجدير بالتعامل معه كضحية سابقة وضحيّة محتملة وجودها مهدّد على الدوام، يأتي الصمود الفلسطيني في وجه التوحّش الحربي الإسرائيلي، ليثير من جديد كلّ الأسئلة التي لطالما سعت إسرائيل إلى طمس إجاباتها وتشويهها.
تعوّدت إسرائيل على القتل والإرهاب، ولم يتعوّد عليه الفلسطيني. في كل مرّة تغطس "السيوف الحديدية" في أجساد الفلسطينيين، تتجلّى هشاشة كيان الاحتلال أكثر، فيعود بنا الزمان ثمانية عقود خلت، ويكتشف العالم، أو جزء منه، أنّ ثمّة كيانًا ورَميًّا يشوّه ضميره. وكلّما حاول الاحتلال تغطية هذا العري الأخلاقي عبر حرفة يتقنها من استدعاء معاداة السامية أو الهولوكوست، أو غسيل توحّشه غسيلًا أخضر (حوّلنا الصحاري إلى جنّات) أو ورديًا (نحن واحة المثليين في محيط همجي)، أو ادّعاء عقلانيته وتقدّميته بالمقارنة بأنظمة عربيّة مستبدّة حوله، عادت جرائم الغطرسة الإسرائيلية لتدحض كلّ ذلك، وتقول: إسرائيل دولة إرهاب محض.
إنّها لعنة النكبة الأولى. والدم الذي لا ينام. إنّها أيضًا لعنة نسيان النكبة الأولى والسكوت عن عقابيلها الكارثيّة اليوم، ضمن منظومة من الإنتاج المعرفي والإعلامي المعولم المتواطئ مع الاحتلال، الذي أصرّ على تجاهل واحدة من أخطر مآسي العصر الحديث وأشدّها وحشية وظلمًا، وإهمال مسألة غير منتهية، وحالة استعمارية ذات مفاعيل راهنة ومظالم متراكمة تؤثّر على مصير منطقة بأسرها وتشوّه واقعها وتقتل مستقبلها، وتفتك بالفلسطينيين والعرب جميعًا، باعتبار ما نشأ في بلادهم من نظم استبداد وتبعيّة، أفضت إلى هذه الحالة من الوهن والعجز الكامل، أمام قتلنا الجمعيّ.
