لم يخلُ جيل من أجيال المسرح الجزائري، منذ النّصف الأوّل من القرن العشرين، من وجوه كابدت اجتماعيًا وفنيًا من أجل أن تفرض نفسها في مشهد قليل الفرص أصلًا، منها من وصل فصار علامةً مسرحيةً فارقة، ومنها من بقي حلمه معلقًا.
لم يخلُ جيل من أجيال المسرح الجزائري، من وجوه كابدت اجتماعيًا وفنيًا من أجل أن تفرض نفسها ومنها الشاب المسرحي أمين رفاس
ورغم اتساع رقعة المسارح الحكومية والجمعيات والتعاونيات الخاصّة والدعم الرّسمي للنشاط المسرحي في السّنوات العشر الأخيرة، إلا أن الشّاب المبرمج على الحلم المسرحي في الجزائر، يجد نفسه مطالبًا بأن يخوض المغامرات ويتصيّد الفرص ويصبر على جملة من الإكراهات، خاصّة إذا كان مقيمًا بعيدًا عن المشهد العاصمي، حيث تتجمّع الفرص والحظوظ. مع هذا كلِّه، استطاع ممثلون ومخرجون وموسيقيون وسينوغرافيون وكتاب نصوص شباب أن يفتكّوا المشعل ويُضيؤوا المشهد.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الله بهلول.. أن تمارس المسرح وتدرسه
"لو كان المشهد المسرحي الجزائري صحيًّا، لما وجد الواحد نفسه مطالبًا بأن يبذل جهودًا متعبة خارج تطوير ذاته، فيكون مناضلًا مسرحيًا وفنّانًا في الوقت نفسه، بكلّ ما يترتّب عن هذه الازدواجية في الاهتمام من وقتٍ يُهدر وأعصابٍ تُحرق وجهودٍ تُبذل وفرصٍ تضيع، ولا شكّ في أنّ هذا الواقع دفع بعشرات المواهب الحقيقية إلى الانسحاب يأسًا، فليس الجميع قادرين على الصّمود، أو مالكين لحرية الاختيار أمام أسرهم"، يقول الممثل محمد أمين رفاس، من مواليد 1993.
عن تجربته الشخصية، في مدينة وهران يقول أمين لـ"الترا صوت": "كانت الجزائر تبحث عن ذاتها، بعد تجربة قاسية من العزلة التي فرضتها عليها أوضاعها الأمنية، وكنتُ داخلًا في أزمة نفسية حاّدة، نتيجة أنني فقدت قريبةً عزيزةً علي، وكنت ملزمًا بأن أجد مخرجًا عاجلًا، وإلا قادني حزني ويأسي إلى خيارات مشؤومة، فكان المسرحُ البديلَ الذي طرح نفسه علي للانتحار والمخدّرات والانخراط في مساعٍ كان الوضع المخنوق يوفّرها". ويضيف: "حتى يُفهم كلامي هذا جيّدًا، لابد من مراعاة معطيات كثيرة تخصّ الواقع والشّارع الجزائريين في السّنوات الأخيرة، منها أن صورة السّارق وبائع الحشيش والمدمن على دخول السّجون والمقتحم للسّكنات والبنوك، بدأت تنزاح نحو البطولة، في مقابل تراجع صورة الفنان والمتعلم والمثقف".
يقول محمد أمين إن إخوته في البيت وأترابه في الحي، كانوا يميلون إلى الرّسوم المتحرّكة، "بينما كنت أميل إلى المسرحيات التي كان يبثها التلفزيون الجزائري، ورسخ في ذهني أن الممثلين ليسوا مخلوقاتٍ عادية، لذلك فقد أصبت بالذهول يوم التقيت صدفة في الشارع الممثل محمد أذار، أحد الوجوه البارزة التي كانت تصنع مجد المسرح في وهران وفي الجزائر". في مقابل هذه الفرحة التي أثمرها هذا اللقاء في نفس محدثنا، عاش صدمةً شكّلت محفّزًا له، وقد كانت قادرةً على أن تنسف طموحه، "قرّرت المدرسة أن تنجز مسرحية احتفالًا بنهاية العام الدّراسي، وبينما كنت في أوجّ حماسي للمشاركة فيها، قرّرت المعلمة أن تهمشني".
في تلك اللحظة المرّة التي أودت بمواهبَ كثيرةٍ في فنون مختلفة، مدّ الفنان سمير بن علة يدَه للفتى الحالم، ومكّنه من اعتلاء خشبة مسرح المدينة، الذي يحمل اسم واحد من عمالقة المسرح الجزائري هو عبد القادر علّولة، بعد أن كان مجرد متفرّج على ما يُقدمه من عروض.
يقول محمد أمين لـ"الترا صوت" إنه كبر خجولًا ومنطوًيًا ومتردّدًا في علاقاته الإنسانية، "لكنني ما أن اعتلي خشبة المسرح، حتى أتخلّص من خجلي وتردّدي وانطوائيتي، وأتحوّل إلى إنسان سوي، وهي ثاني خدمة قدّمها لي المسرح، بعد أن انتشلني من مصائرَ غامضةٍ كنت مرشّحًا لها". يسأل: "لماذا نعمل على ردّ الجميل للأشخاص الذين أحسنوا إلينا، لكننا لا نفعل ذلك مع الفنون التي لعبت معنا الدور نفسه؟".
اقرأ/ي أيضًا: "الفنون الجميلة" غير معترف بها في الجزائر؟
من هنا، قرّر محمد أمين رفّاس أن ينذر وقته وجهوده وشغفه وأحلامه لأبي الفنون، "فلم يعد لي من هاجس سوى أن أكون ممثلًا محترًفًا. أتحدّث عن الاحتراف لا عن الشّهرة، فهي لم تهمني يومًا، وهو ما أثّر سلبيًا في مردودي الدّراسي، حيث رسبت في الباكالوريا/ الثانوية العامة، إذ كنت أعكف على قراءة النصوص المسرحية ومشاهدة العروض، في فترة الامتحانات نفسها، وهذا ما لا أنصح به غيري".
مثّل محمد أمين رفاس أدوارًا متميّزة في العديد من العروض المسرحية وأصر أن يصقل موهبته بالدراسة والتكوين
مثّل محمد أمين أدوارًا متميّزة في العديد من العروض المسرحية، منها "الرّسالة" لقدّور بن خماسة، و"ماريا المتشردة" و"الدواخة" ليخلف بوعامر، إلى جانب نخبة من "المنودرامات" الفكاهية التي كان يؤثّث بها ليالي وهران وما جاورها، خاصّة خلال شهر رمضان.
يقول في هذا السياق، "كنت أحوّل حزني إلى فرح يغمر الناس، فأجد في ذلك متعةً عميقة، وكنت في المقابل أبحث عن بصمتي الخاصّة في التمثيل، داخل ساحة مسرحية كثرت مجاملاتها وقلّ جمالها".
ما بين سنتي 2012 و2014، شارك رفّاس في العديد من المسابقات المتخصّصة في التمثيل الفردي، في القنوات التلفزية الجزائرية، فلفت الانتباه إلى موهبته التي أهلته لأن يشارك الأسماء الكبيرة، مثل محمد عجايمي وبهية راشدي، في أكثر من فيلم. "أخذت ملاحظات بعض أعضاء لجان التحكيم بعين الاعتبار، وقرّرتُ أن أخضع موهبتي لتكوين أكاديمي جاد، وهو ما جعلني أشرع في ترتيب سفري إلى فرنسا عام 2015".
هنا يجد محدثنا نفسه أمام عدّة تحدّيات، قرّر ألا يفشل أمامها، مادام الأمر متعلقًا بطموحه المسرحي، منها الحصول على تأشيرة الدخول إلى الفضاء الفرنسي، وتدبّر تكاليف الطائرة والتسجيل في مدرسة خاصة. يتحدث لـ"الترا صوت": "تعلّمت أن هويّتي لا تتعلّق بانتمائي إلى عرق ما، بل إلى طموح ما، وأن قيمتي لا تحدّدها ممتلكاتي المادية بل اجتهاداتي من أجل تحقيق ذاك الطموح، لذلك استطعت أن أتغلّب على معظم العراقيل التي وقفت في وجهي، وأنا أقتحم المشهد الفرنسي".
يدرس محمد أمين الآن في مدرسة متخصّصة في المسرح والسّينما في مدينة تولوز الفرنسية، وقد انضمّ إلى فرقة معروفة أسّسها ميشال اليونول عام 1978، في مقابل اشتغاله ليلًا حتى يحصّل المال الذي يغطّي تكاليف دراسته. "بقي لي عام واحد على حصولي على شهادة معترف بها، وسأعود إلى الجزائر لأزاول فنّي هناك. صحيح أن الحياة في فرنسا مريحة وثرية بالأفكار والتجارب، لكن مسقط الرّأس يستهويني كثيرًا، فهو يتوفّر على مادة درامية كبيرة، أحتاج إليها في مشروعي المسرحي القادم".
اقرأ/ي أيضًا: