إذا مررت في حي قديم ووجدتَ شيخًا يقرض الشعر فأرهف السمع له، لعله درويش على الأعتاب يرجو ويتوسل، ولعل ما يبوح به من وجدٍ تراثُ وروحُ أمة بأكملها، قد يطمره النسيان.
الدرويش كلمة فارسية الأصل، مكونة من مقطعين "در" أي باب، و"ويش" أي فقير، وكانت تطلق في بادئ الأمر على الفقراء والمحتاجين الذين يسألون الناس إحسانًا، ثم أطلقت على الزاهدين من المسلمين، لتُطلق بعد ذلك على أعضاء الطرق الصوفية.
يرى الباحثون أن أول من أدخل بذور التصوف في مصر هو ذو النون المصري
أما اصطلاح الطريقة فقد اتخذ مدلولًا خاصًا، عنى عند الصوفية في القرنين الثالث والرابع الهجريين مجموعة الأخلاق والعقائد والآداب التي يتمسك بها الصوفيون، كما ورد في كتاب أبو الوفا التفتازي. ويرى الباحثون أن أول من أدخل بذور التصوف في مصر هو ذو النون المصري، كما كان ظهور الغزالي من العوامل المهمة التي غيّرت مجرى التصوف الإسلامي، وسرعان ما ظهر المعجبون بهذا الاتجاه من كبار الشيوخ، ومنهم عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية، وأحمد الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية، واسعة الانتشار في مصر. كما أتى مصر السيد أحمد البدوي وأسس الطريقة الأحمدية في طنطا، والشاذليّ مؤسس الطريقة الشاذلية الكبرى في مصر، وأسس الطريقة البرهامية إبراهيم الدسوقي في مدينة دسوق.
اقرأ/ي أيضًا: فريد عمارة.. سحر البساطة
يمكن تقسيم الطرق الصوفية في مصر إلى ثلاث طبقات، وفقًا لما أتى به الباحثون، الأولى: طبقة المتصوفة الفلاسفة، يمثلها ابن الفارض، والثانية طبقة الفقهاء وهم على جانب عظيم من الشعبية في مصر، يمثلهم السيد عبد الرحيم القنائي، أما الطبقة الثالثة فهي طبقة الدراويش التي اعتبرت التصوف عبادة عملية من الذكر والطقوس، يمثلها أحمد البدوي، وهي ذات سلطان في الديار المصرية.
يرجع نفوذ الدروايش في مصر إلى اعتمادهم على طريقتين في نشر طرائقهم بين الناس؛ الأولى هي السماع، عبر إقامة حلقات الذكر التي تُنشد فيها الأشعار، والثانية هي التوسل، وذلك بنظم القصائد والموشح والزجل.
في دراسة مهمة قام بها إبراهيم عبد الحافظ ركزت على الشعر الصوفي الشعبي، وبعض ملامحه، وتناول في الجزء الميداني منها مدينة القليبوبية، الواقعة على رأس الدلتا، ما جعلها منطقة الري الرئيسة لكل المحافظات الأخرى. تقع فيها أضرحة الأولياء عند أطراف القرى، ومنهم سيدي عواض الطهلموشي، وسيدي عبد الرحمن بن عوف. اشتهر المنشدون بالتوسل إلى السيد البدوي وطلب المدد، فكان مما جاء في مجموعة أزجال الدراويش: "يا سيد كم لك من مدد/ يسمو عن وصف أو عدد/ وبكم طنطا أعلى بلد/ بوسيع رحابك يا سيد/ كم جاك مسكين يبكي/ وفقير في حال ضنك/ فأخذت بيده يا سيد".
الشعر الصوفي في مصر، مظهر تنغرس تفاصيله في حياة المصريين بلا وعي
اقرأ/ي أيضًا: الشاب يزيد.. ربع قرن من الغناء للمرأة في عيدها
تتركز النصوص المؤداة من قِبل المنشدين في الموالد على قصائد الأولياء والأغاني المتعلقة بمدحهم، كما ينظر المنشدون إلى بضاعتهم بتقديس شديد، فهم يعرفون أنهم يحفظون نصوصًا تحظى بجانب كبير من القداسة، وهي في نظرهم تجارة رابحة من ناحيتين، فهي مدح في الرسول وآل البيت والأولياء، وفي التوحيد والتوسل، ومن ناحية أخرى هي سبب للكسب المادي.
ومن تقاليد المنشدين أن منشد الذكر يكون مرتبطًا بالطرق الصوفية، أي أن يكون منتميًا إلى طريقة معينة، وهو في الغالب الأعم ذو نشأة صوفية خالصة، يحافظ من خلالها على مكانته وفق التقاليد المتبعة. كما أنه ينقل إلى الدراويش المعاني الصوفية، والحكم والمواعظ من خلال الإنشاد في مجالس الذكر، وفوق ذلك يقود مجموعة من الموسيقيين، وله دراية بالأساليب والموسيقى والأداء.
الشعر الصوفي في مصر، مظهر تنغرس تفاصيله في حياة المصريين بلا وعي أحيانًا، فيمكنك المرور بمنطقة شعبية فتسمع في أحد المقاهي العتيقة صوت الشيخ المعروف أحمد التوني مثلًا يغني قصيدة لابن الفارض، والناس يسمعونها وقد لا يفهمون ما يقال، لكنّ حالة الشجن تلك هي التي تبقيهم في مقاعدهم حتى يفرغ الرجل من غنائه. والشعر الصوفي فن يستحق إعادة النظر والاهتمام بتوثيقه قدر المستطاع.
اقرأ/ي أيضًا: