08-يوليو-2024
كاريكاتير لـ باولو لومباردي/ إيطاليا

كاريكاتير لـ باولو لومباردي/ إيطاليا

بينما ننتقل من الخراب والوحشية ودمار أسباب الحياة، ومن محو عائلات بكامل أفرادها وأجيالها من السجل المدني أو انتهائها إلى مدن الخيام، مرورًا بأزمات غياب الطعام والماء والرعاية الصحية، إلى جانب تهديدات تراكم القمامة وغياب الصرف الصحي؛ يحدث بالتوازي معها كلها أنّ همة العمل على إيجاد مخرج لإسرائيل من مأزقها العسكري والأمني في غزة في ازدياد، وبالتأكيد مع الخروج من كل ما ترتب على ذلك من مآزق سياسية واجتماعية وإنسانية لا تبدو أنها ستأتي بأي خير على دولة الاحتلال في المستقبل.

خلال هذه المساعي، نرى هجومًا كاسحًا يُشنّ على نتنياهو من قبل معارضين إسرائيليين وصهاينة أميركيين، على اعتبار أنه من يقود دولة الاحتلال نحو حافة الهاوية، ولأجل تصحيح الخطأ واستعادة موقع إسرائيل "الإنساني" و"الديمقراطي" يجب التخلص من رئيس الوزراء "السيكوباتي" و"النرجسي"، كما كتب خبير أميركي اختصر علينا الكثير من النقاش الجاري الآن، إذ رأى أن المشكلة هي وجود هذا الشخص على رأس السلطة الذي يستعملها ضمن ما يخدم مصالحه الخاصة، ومن خلال حسابات شخصية، دون مبالاة بانعكاس ذلك على أمن الدولة التي يقودها، ولا على مصالح وسمعة حلفائها، وأما حرب الإبادة الحالية، ومن قبلها، وخلالها أيضًا، الاحتلال والاضطهاد والفصل العنصري والاستيطان.. إلخ، فإنها أشياء لا تستحق الالتفات.

يغضب المحلل. يغضب معارضو نتنياهو. تغضب الإدارة الأميركية. الجميع يرغون ويزبدون، ويتفقون على أنه آن الأوان للولايات المتحدة لتدعم لإسرائيل في المساعدة على إنهاء التهديد الأكبر الذي يواجهها، وهذا التهديد ليس حماس أو حزب الله، بل إنه ليس إيران حتى، إنما يتمثل في نتنياهو والمتطرفين اليمينيين الذين معه.

الولايات المتحدة يجب أن تدعم إسرائيل الآن لمساعدتها في مواجهة التهديد الأكبر الذي يواجهها، والذي لا يتمثل في حماس أو حزب الله أو إيران، بل في نتنياهو نفسه

لا توجد مشكلة في تسعة شهور من حرب الإبادة التي أفنت وعطبت وأعاقت وشردت الآلاف المؤلفة من البشر، الذين كانوا يعيشون قبلها حياة هشة تحت حصار مديد. ولا توجد مشكلة في تقويض ثلاثة أرباع البنية العمرانية لقطاع غزة. ولا مشكلة في التسبّب في مجاعة، وفوقها تحويل إرسال المساعدات الإنسانية إلى استعراض قميء، إلى جانب الخراب الذي يتسبب به. وضمن المنطق نفسه، لا توجد أية أهمية للسجون السرية التي تمارس أسوأ أشكال التعذيب والإهانة، ولا في استعمال المدنيين دروعًا بشرية، فالمشكلة كلها في هذا الشخص الذي اتخذ هذه الخيارات الدموية وأساء لمكانة وسمعة مشروع يزعم أنه حامل لأسمى القيم الإنسانية، مع أننا لم نعرف عن هذا المشروع أكثر من أنه صانع للمجازر تحت قيادة مجرمي حرب من كل صنف ولون، ليس نتنياهو أفضلهم ولا أسوأهم، فلكل منهم لحظات صعود وهبوط تساوي بينهم في الإجرام والنذالة.

يريد هؤلاء أن يقولون لنا إن غالانت، وغانتس وآيزنكوت (قبل استقالتهما)، ليسوا جزءًا من حرب الإبادة تصميمًا وتنفيذًا وإشرافًا. كأنهم جميعًا ضحايا بلا حول ولا قوة لخيارات نتنياهو وقرارته. وهذا ما لم نكن نسمعه قبل اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، وقبل تصاعد الخطر في جبهة الشمال. كأن علو هذه النغمة في وسائل الإعلام هو تأكيد للمطالبة الوحيدة التي أرادها هؤلاء، وهي إنهاء الحرب عبر إجراء صفقة تبادل للأسرى الفلسطينيين والمحتجزين الإسرائيليين، وليس الانتقام وتفجير الحقد في سفك الدماء وخلق مساحات من الخوف تمنع أي فعل مقاوم، ومساهمة إضافية في التهجير عبر تقليل السكان.

يفوت الجميع أن هذه المواقف التي تبدو من الخارج تحمل نوايا إنسانية جلّ همها إنهاء المأساة، ليست أكثر من مناورة للخروج من المأزق العميق، وإعادة ترتيب الأوراق، ومواجهة التحديات التي تنتظر إسرائيل على كل الجهات. فأصحاب النوايا السليمة يردفون في أحاديثهم وتصريحاتهم حول وقف إطلاق النار في تقديم رؤى تكمل حصار غزة، وتفرض شكل سلطة لا يبدو مهمًا رأي سكان القطاع فيه، فالأهمية الوحيدة هي أن تُؤدي دورًا أمنيًّا وحسب.

ضمن هذا المنطق، يجب أن تنتهي الحرب لأن إسرائيل لم تعد قادرة على الاحتمال المزيد، وليس لأن هناك عالمًا كاملًا جرى تقويضه في قطاع غزة، وجرى تحطيم قابليته للحياة. ويجب أن تنتهي الحرب لأنها لم تجلب المحتجزين الإسرائيليين في غزة، ولا يمكن استعادتهم بغير التفاوض. وأيضًا على الحرب أن تنتهي كي يتفرغ بايدن لتحسين موقفه الانتخابي المتهاوي.

إذن، تقوم الحرب من أجل تدمير، ثم يتداعى دعاة قيام الحرب إلى إنهائها بحجج شتى، مع أننا ندرك أنّ الجدوى من كل ما جرى هي هذا التدمير ولا شيء سواه.