كيف يُمكننا اختصار ستة وعشرين ألفًا ومائتين وثمانين يومًا من الظلم، في جلسة مدتها نصفُ ساعة؟
ستتسعُ الأسئلة لتُحيطَ بكل ما على هذه الأرض من صراعات، وعليك أن تتَفهم كل الآراء، وإن خالفَت وجهة نظرك كي لا تظهر كأنك العدو الذي يشاهدونه على الشاشات، ويخافونَ منه.
أن تكونَ فلسطينيًا في الشرق الأوسط، فأنت لست بحاجة لمقدمةٍ وتعريف عنك، فالجميع يعلم ما حدث
أن تكونَ فلسطينيًا في الشرق الأوسط، فأنت لست بحاجة لمقدمةٍ وتعريف عنك، فالجميع، إن صح التعبير، يعلم ما حدث، لكن أن تعيش في الجزء الشمالي من أمريكا، وفلسطيني، فذلك يتَطلبُ منك جُهدًا مضاعفًا وحذَرًا أكبر.
إن ما نحتاجه اليوم، هو أن يكونَ الفلسطيني عالميًا بثقافته، أن يكونَ مستعدًا ليدخل في نقاش واسع فيما يخص التاريخ، أن يكونَ مُلمًّا بتفاصيل القضية ليتحقق له نصرَ الجولةِ الأخيرة، فهم، هُنا، في الجزء الباردِ من العالم، أعمتهم وسائلُ الإعلام وجعلتنا - نحنُ الفلسطينيين – الأشرار في المُعادلة.
لقد عمدت "إسرائيل" إلى ترسيخ صورتها حول العالم بأنها مثالٌ للديمقراطية والتسامح مع الأقليات، والذي يُستخدمُ عادةً لكسب التعاطف العالمي ضدنا، فكم من حملةٍ ركّزت على موقف الحاج أمين الحسيني ودعمه لألمانيا النازية إبّان الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تصمه بتهمة التحريض ضد اليهود مع أنه حين زار ألمانيا كان "الحل النهائي" قد بدأ فعًلا؟ وكم عملت هذه الصورة عَمل السحر في جذب العديد من المؤيدين لهذه الدولة التي ظهرت كأنها الطرف صاحبُ الحق والمستضعف عبر التاريخ؟
وكما تفتكُ الآلة العسكرية "الإسرائيلية" في القتلِ والهدم والتهجيرِ في فلسطين ودولٍ أخرى، فإنها تبرعُ أيضًا في دورِ الحَمل الوديع أمامَ العالم، ولم تتوان ولو للحظة في عملية غسل الأدمغة لفئاتٍ مختلفة من المجتمعات الغَربية، لعلَّ أبرزها ما قامت به من استمالة المثليين حولَ العالم وإظهار "إسرائيل" وكأنها جنّة الحريات والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وآسيا مستخدمةً أسلوب "الغسيل الوردي" (Pink washing)، ما جعلَ مؤيدوها يؤمنون بأن ما يحدثُ على هذه الأرض هو صراعٌ بين شعبين وليسَ محتلٌ وصاحبُ الأرض.
بالمقابل، فإننا كفلسطينيين لم نُحاول بعد استغلال المواقف المؤيدة لنا حول العالم واحتضانها والاستفادة منها بالشيء الذي يُحقق لنا ما نريده، فبقينا رهناء للساسة الذين لا يرون اليوم في القضية من مصلحة سوى البقاء على كراسيهم حتى مماتهم، فلا مبادرةٌ جادّة، ولا احتواءٌ أو دعمٌ للكثير ممن وقفوا معنا.
"الوطن الخالد إلى الأبد"، بهذهِ الكلمات وصفَ المحتَلّ الأجنبي لأمريكا الوطن الذي وعدَ بهِ السكّان الأصليين، وبعدَ أن تفوقوا عليهم عسكريًا، طردوهم من أرضهم، وأصبحوا لاجئين في ولايات أخرى. فهل نأمنُ وعدهم اليوم؟
لَم يَعُد صاحب الأرض، ساكن البلاد الأصيل إلى وطنه، ولم نعد نحن بعد.
حينَ حدثت أضحوكة صفقة القرن، سألني العديد من المواطنين الكنديين؛ أين الطرف الفلسطيني من كل هذا؟
فأجبتُ ساخرًا وفي قلبي شرخ: لم نقبل، ولن نقبل بهذه المهزلة.
أن تدخل في نقاشٍ كهذا، فذلك يعني أن تشحذَ ما استطعت من مفرداتٍ وتراكيب، وسعةَ صدر أيضًا، فالتاريخُ كالأمعاء، متصلٌ ببعضه البعض، وإن اخترت أن تبدأ من جزءٍ ما، فعليك أن تسير الدرب كلّه.
لم تبدأ قضيتنا منذُ النكبة، بل من ثلاثين عامًا قبلها، وهذا المدخل – الذي يجهلهُ الكثير هُنا – له عدّةُ أبواب. إن التصاقَ ما يُسمى بالثورة العربية الكُبرى بدحرِ العُثمانيين بدخول الانتداب كالتصاقِ الصمغِ باليد، لا انفكاكَ عن بعضهما البعض، فبدّلنا احتلالٌ باحتلال، وطُغيانٌ بآخر، وآغا بجنرال.
*
لكي نحكي قصتنا اليوم علينا أن نختزل نضالنا وفدائيتنا وتعلقنا بالأرض لأجل أن يستوعب هذا الآخر، ما حدث. إذًا، كيف نخاطبهم؟ لا بد لنا من مدخلٍ إنساني قانوني لنسرد حكايتنا، فالصراخ لا يُفيد، الأرقام والشهادات والحقائق هي التي تُغير الرأي العام. وعلى الرغم من كل المعيقات التي فُرضت في أوروبا وأمريكا كقانون معاداة السامية وغيرها، فإنه لا يزال هُناكَ متسعٌ كبيرٌ لنقول، ونُغير هذا التوجه.
لا بد لنا من مدخلٍ إنساني قانوني لنسرد حكايتنا الفلسطينية، فالصراخ لا يُفيد، الأرقام والشهادات والحقائق هي التي تُغير الرأي العام
وعلينا أيضًا أن نهتم بالأصوات المختلفة حول العالم التي تدعم قضيتنا، والأهم من ذلك هو أن نعزز ظهورِ هذه الشخصيات حتى وإن اختلفنا معهم في تفاصيل أخرى، فلا تعنينا أبدًا ميولهم الجنسية أو لونُ بشرتهم أو أي شيء آخر طالما أنهم قادةُ رأي في مجتمعاتهم، فالأهم هنا هو وقوفهم معنا في وجهِ هذا العالم.
أن اكتسابُنا لتأييدِ مجموعةٌ مضطهدة يُعدُ انجازًا كبيرًا في مسيرةِ الإنسانية، فلا بدَ لكل مضطهدٍ من يومٍ يشعرُ فيه باستعادةَ روحه وحقّه، ولهذا علينا البحث عن سبلٍ مختلفة لنتحدَ معهم.
الجُهد الفردي المبذول في نشر الوعي لقضيتنا أهم من كل المؤتمرات الصحفية والخطب الرنانة التي يلقيها الزعماء المتحجرون، فالرواية دائمًا أصدق على لسان بطلها. وكأننا رُسلُ فلسطين حولَ العالم، نحملها معنا ونحكي عنها ما استطعنا.
وتأتينا الفرص في هذه البلاد الباردة كثيرًا، ولنا من مفاتيحِ الحوار ما قرأناه وعشناه ووثقناه، وفي كثيرٍ من الأحيان علينا أن نعذرَ جهلهم وتعنتهم، لا استسلامٌ منا أبدًا، لكن لم تأتهم الفرصة بعد لأن يجلسوا مع أحدٍ منا، نحنُ الفلسطينيين.
طعامُنا وشرابُنا وعاداتُنا وتقاليدنا هي المدخل، أن تُعيدَ الفلافل إلى أصله، أن تُرجعَ لحنًا إلى مؤلفه، أن تسردَ قصّة الزيتون والأرض، أن تذكر قصّة جدّك وكيف وصلتَ أنتَ إلى هُنا لولا أن تهجّرَ من أرضه، فتخلقُ رغبةً بالمزيد، وبالحقيقية.
لقد نخر المحتلُ جسدَ العالم، فصارَ كالسرطان الذي لا يُفيدُ معه علاج، ونحنُ تلك الخلايا الجيّدة التي تقاوم سوادَ هذا السرطان، فننتجُ على قدرِ قوتنا، ما يُبقينا، لنقاوم، ولو أن الحياةَ تستسلم كما يستسلمُ الجسد للسرطان، لكنّا سلّمنا أمرنا، لكننا، وللنَفسِ الأخير، سنستمرُ في طرقِ الحديد، ليَلين، ولو بعد حين.
لم يَعُد الحق بيدِ الذي يملكُ الحق، بل لمن يملكُ القوة. ولنعترف أن القوةَ الآن ليست بيدنا، فسنحتاجُ إلى طريقٍ التفافي لِنُثبتَهُ، ونقولُ قولنا.
*
إن إنجازنا تجاه القضية الفلسطينية في هذه الأيام يتمثل في شرح ما حدث للآخر، تعرية زيف الدعاية الصهيونية ورجرجة ما بثته وسائل الإعلام من سمومٍ في عقل هذا المواطن الغربي، وهذا لعملٌ كبير وشاق طالما لم يكن ممنهجًا ومدعومًا مؤسسيًا، ولنكن أكثر واقعية، فإن ما قام به بعض الفلسطينيين كمبادراتٍ فردية وصل صداها لملايين من البشر في قاراتِ مختلفة، وإن صفحة متخصصة لفلسطين باللغة الإنجليزية على وسائل التواصل الاجتماعي تستطيع أن تُغير الكثير مما يعجز عنه مسؤولي السلطة.
وإذا كان التاريخ يدونه المنتصر، فلا بد من دورٍ للطرف الآخر في تشكيلِ المستقبل، كي لا تمر الذكرى المائة للنكبة ونحنُ على ما نحنُ عليه، فعلينا أن نبدأ منذ اليوم بتصحيح هذا المسار بشكلٍ فردي كبداية لتكونَ أساس انطلاقةٍ جديدة نحو التحرير والعودة.
خطابٌ عصري منفتح وعقلاني واحتواءُ أيٍ كان يتعاطف معنا هو ما نحتاجه اليوم في مخاطبة الإنسان الغربي، وعلى صعوبة الأمر، إلاّ أننا سنجدُ منهم من يستمع، وكعدوى الفيروس الذي نعيش اليوم، ستنتقلُ القصة من واحدٍ لآخر فتشكلُ قناعةً لديهم تُستغلُ عندَ صندوقِ الإقتراع، وبعكس الحروب العسكرية التي تنتهي بسرعة عندَ قصفِ مركز العدو، فحربنا لتغيير الأفكار طويلة وتحتاجُ لنَفسٍ وصبر، وإيمانٌ منّا، كأفراد، بأنَ كل صوتٍ معنا مُهمٌ وعلينا دعمه، والنضالُ في تاريخِ الإنسانية جزءٌ من كينونتها، وهل هُناكَ أعدل من قضيتنا لنمشي هذا الطريق؟