دخول المتاهة
نلج مخيم عين الحلوة ودليلنا فيلم، فنرى المأساة الفلسطينية فيه متحوّلةً إلى شكلٍ من أشكال مسرح العبث، مع بشر محصورين في مساحة متفجرة بالسلاح والمخدرات واليأس، وجميعهم ينتظرون حلًّا، أو أي شيء يمكن أن يُسمّى غودو.
في فيلم "عالم ليس لنا"، نحن أمام أرشيف عائلي وشخصي يتحول إلى مادة أساسية لمعاينة مخيم عين الحلوة
ليس فيلم "عالم ليس لنا" فيلمًا اعتياديًّا قرّر مهدي فيلفل أن يصوّره أو يجمع مواد حول موضوعه، كما يمكن لمخرج آخر أن يفعل. الموضوع مختلف هنا، فنحن أمام أرشيف عائلي مصوّر يعود إلى ثلاثين عامًا، حين ملأ والد المخرج حياة العائلة بالتصوير، إضافة إلى أرشيف شخصي للمخرج نفسه، قام فيه بمراكمة مواد لأهله ولأصدقائه.
اقرأ/ي أيضًا: "حب وسرقة ومشاكل أخرى".. ملهاة فلسطينية
مهدي فتى فلسطيني حالفه الحظ في أن يولد خارج جحيم مخيم عين الحلوة، ومع ذلك استطاع أن يكون عاشقًا كبيرًا له، ربما بسبب عقدة الذنب التي تسبّبها النجاة، أو نتيجة الصفاء في رؤية المكان الذي لا يمتلكه المقيمون فيه، أو لإحساسه بالانتماء إليه، وهو الذي وُلد في الإمارات ونشأ في الدنمارك، وظل المخيم مجرد مكان للزيارة.. ما حدث أنه جمع المواد الموروثة من أبيه، أو التي صنعها بنفسه، وراح يرتّب فصولًا تحكي صراحة ما يحدث للناس هناك، وفي الوقت ذاته تحكي من بين الصُّور لماذا يحدث كل ذلك!
يركز الفيلم على ثلاثة أشخاص أساسيين عند المخرج: صديقه أبو إياد، الشاب الفتحاوي اليائس، وخاله سعيد هاوي كش الحمام، وجدّه الباقي في مكانه رغم الدعوات المستمرة من أولاده الذين يعيشون في الخارج للخروج من المكان.
يبدو مهدي مخرجًا جاء يروي سيرته الذاتية من خلال العلاقات التي ظلت قائمة له مع المكان، في الفترات التي تسنى له أن يبني ذكريات خلال الزيارات المتفرقة. فالصبي الذي يعيش في الدنمارك أصابته الحيرة من الناس الذين يعيش بينهم ويقضون العطل في أماكن للاستجمام، بينما يقضيها هو في المخيم. وأي مخيم؟ عرش البؤس الأول. لكن حقيقة الأمر تقول إنه منذ حمل الكاميرا وبدأ بتصوير ذلك العالم الذي كان يُفترض أن يكون واحدًا من سكّانه وهو يريد تقديم سيرة المكان لأنها الحكاية التي تعنيه بشكل وجوديّ.
تركز الكاميرا على أبي إياد وهو يعبر في الحارات الضيقة، كأنَّ جدران المنازل تقترب من بعضها البعض لكي تطبق عليه. في إشارة إلى أنه عالق في مكان لا مخرج له. وبهذا يتحول المكان إلى مصيدة، كما قال الراحل حسين البرغوثي.
سيحاول أبو إياد الهرب، وسيخوض رحلة جنونية تنتهي بستة أشهر في شوارع أثينا، منطلقًا من فكرة أنه لاجئ هنا أو في أي مكان آخر، فلماذا لا يكون هذا اللجوء في مكان يمنحه حياة؟
"عالم ليس لنا" فيلم عن مكان يرفضه العالم الذي نعيش فيه. مكان لا يريد أحد أن يخرج من دهاليزه غير من يختارهم روليت الأقدار
من جانب آخر، نرى سعيد المشغول بالطيور. كشّاش الحمام بالتعبير المعروف. رجل بسيط يقضي يومه في العمل وما تبقى منه فوق سطح البيت بصحبة حماماته. المفارقة ليس في أن المخيم ذاته قفص وحسب، بل في أن الحياة التي عاشها هذا الرجل قفص آخر، فسعيد يحمل في داخله حزنًا دفينًا على موت أخيه جمال الذي حما المخيم في زمن مضى. يموت الأخ ويترك أخاه على حافة الجنون. وأما الحمام فأقرب ما يكون الى نص مستمر في الرثاء.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "واجب".. طوفان من القصص الفلسطينية
"عالم ليس لنا" فيلم عن مكان يرفضه العالم الذي نعيش فيه. مكان لا يريد أحد أن يخرج من دهاليزه غير من يختارهم روليت الأقدار، كالفتاة التي نراها تغادر عروسًا بعد زواجها من شاب مقيم في ألمانيا.
نتعرّف على وجوه مخيمية صرفة، فنرى ونسمع الاستثنائيّ في الإنسان الذاهب إلى حدود جنونية في علاقته مع حياة فقدت كلّ أسباب الرجاء. أناس يحكون ويثرثرون ويهذون، والكاميرا تسجّل أيامهم المصنوعة من حيرة وضياع كأيام المخيم. يحكون مع الكاميرا فنراهم ونسمعهم، وندرك أنها العين الوحيدة التي رأت مكانًا هجرته النظرات بعدما غضت العيون الطرف عنه.
العنوان المأخوذ من كتاب قصصيّ لغسان كنفاني يريد القول إن الفلسطينيّ المطرود واللاجئ لا يمتلك عالمه، أو إنَّ العالم ليس لمثل هذا النوع من البشر، والمرة الوحيدة التي يظهر فيها الكتاب في الفيلم تكون عندما يقوم أبو إياد بحرق ما لا يريده من كتب ومجلات، لأنه لم يعد يرى فيها أية فائدة أو رجاء، غير أنه حين يمسك بكتاب "عالم ليس لنا" يضعه جانبًا. في ذلك المشهد نشعر أنه شخصية خرجت من إحدى قصص الكتاب لتحميه من الحريق.
أفلام أو حواش على المتن الكبير
بعد فيلمه الأول "عالم ليس لنا"، قدّم مهدي فليفل على مر السنوات مجموعة من الأفلام القصيرة، المرتبطة بسياق ومقولة فيلمه الأول، وهذه الأفلام هي: "عودة رجل" و"ثلاثة مخارج منطقية" و"زينوس" (غريب أو عدو باللغة اليونانية)، بالإضافة إلى فيلم روائي قصير هو "رجل يغرق".
تنزل هذه الأفلام إلى الحياة، إلى قاع الحياة اليومية لشباب المخيم، والأساس الفكري لها كلها يختصره حوار هاتفيّ قصير يجري بين المخرج والباحثة الفلسطينية ماري قرطام، المقيمة في باريس، التي تقول إن ثلاثة طرق أمام الفلسطيني لكي يحتمل الحياة في عين الحلوة، أو ثلاثة مخارج منطقية، بتعبيرها، وهي الانتماء إلى فصيل ما، وطني أو إسلامي، أو تعاطي المخدرات وترويجها، أو الهجرة.
هناك ثلاثة طرق أمام الفلسطيني لكي يحتمل الحياة في عين الحلوة، وهي الانتماء إلى فصيل ما، وطني أو إسلامي، أو تعاطي المخدرات وترويجها، أو الهجرة
وبالفعل تختصر هذه "المخارج" كل ما يحدث للشباب، فها هو رضا، شخصية فيلم "عودة رجل"، تجتمع فيها هذه "المخارج" كلها، فهو يرجع إلى المخيم بعد ثلاث سنوات من التشرد في شوارع أثينا في محاولة الهجرة الفاشلة إلى أوروبا، وتبدو أبر الهيرويين جزءًا أساسيًّا من حياته، كما أنه بطبيعة الحال عضو في تنظيم سياسي.
اقرأ/ي أيضًا: 3 أفلام أساسية في السينما الفلسطينية
طبعًا سنرى رضا في الأفلام الأخرى، في "ثلاث مخارج" حين يفكر بتجريب السفر مجددًا، لكن هذه المرة بعد ان صار أبًا، ونراه بشكل عابر أيضًا في فيلم "زينوس" مع شباب المخيم المشردين في شوارع أثنيا في انتظار معجزة ما تأخذهم إلى البر الأوروبي.
في لحظات كثيرة، يتطابق أبو أياد مع رضا مع سعيد. ويتطابق المخيم مع البحر أو مع أثنيا التي تطابق لغتها بين الغريب والعدو في كلمة واحدة هي "زينوس"، التي غدت عنوانًا لأحد الأفلام.
ولعل الفيلم الروائي القصير "رجل يغرق"، يختصر كل ما تقوله الأفلام السابقة، حيث نرى في البداية ما يشبه شخصًا يغرق في البحر، ثم ندخل إلى الفيلم فنرى شابًا فلسطينيًّا يعيش في اليونان سعيًا وراء الاحتياجات الأساسية، ولأجل ذلك ليس أمامه إلا السرقة أو بيع جسده كداعر، وينتهي الفيلم بمشهد يوحي بالغرق في البحر مرة أخرى، ليقول لنا إن هذا ليس وصولًا، وليس نجاةً، بل هو الغرق بشكل آخر.
تأتي أهمية هذه الأفلام في أنها تلاحق شخصيات الفيلم الأساسي، وتخبرنا، سنة بعد أخرى، أن هؤلاء الناس لا يزالون على الحافة، في المخيم وخارجه. وهنا نرى أبا أياد، في "زينوس"، يتحدّث من أثنيا التي ذهب إليها لتكون محطة عبور إلى البر الأوروبي، فوجدها أقسى من المخيم، لأنها تجبره على البقاء تحت تأثير المخدرات لكي يحتمل الحياة والآخرين، كما تجبره على بيع جسده مقابل 50 يورو للشباب المثليين أو المسنات ممن يبحثون عن الجنس، ولا يجد ما يبرّر فيه خياره سوى أن الدعارة أرحم من السرقة بالنسبة له.
عن عين الحلوة
لطالما بدت مخيمات لبنان ممثلة لأقصى ما في القسوة في عنفها على ساكنيها، وفي العلاقة الكارهة مع لبنان الذي لا يعطي هؤلاء البشر ما يكفي من المساحة للعمل والحياة.
مخيم عين الحلوة محاصر من كل الجهات، ما عدا مدخله الوحيد الواقع تحت سيطرة الجيش، لأن الدولة اللبنانية تراه بؤرة للإرهاب
مخيمات الفلسطينيين في لبنان مثال ساطع على البؤس، لا سيما مخيم عين الحلوة، المحاصر من كل الجهات، ما عدا مدخله الوحيد الواقع تحت سيطرة الجيش، لأن الدولة اللبنانية تراه بؤرة للإرهاب، أما من الداخل فالمرجعيات السياسية متعددة، سياسيًا وعائليًّا.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "إبراهيم إلى أجل غير مسمى".. العائد إلى دير أبو مشعل
يُرجع الباحثون الذين درسوا أوضاع المخيم عوامل بؤسه إلى عنف الدولة اللبنانية الذي يتجلى في القوانين التمييزية التي منعت الفلسطينيين من العمل والملكية، ثم قامت بتهميش المخيم وإغلاقه على أهله، ومن جانب آخر يمثل المخيم صورة لفشل المشروع الفلسطيني الذي اختار الحكم الذاتي والتخلي عن اللاجئين، والانتقال من الثورة إلى حماية الاحتلال، ليأتي بعد ذلك دور الطبقة المسيطرة على الأمور، كي تتواطأ مع السلطات اللبنانية، وتدير الوضع القائم دون السعي لمنع إحداث أي تغيير. تشير ماري قرطام، في الاتصال الذي أشرنا إليه سابقًا، إلى أن هناك من يُخيفون الشباب من الخروج من المخيم بالزعم أنهم مطلوبون للأمن اللبناني، وذلك من أجل السيطرة عليهم وإبقائهم ضمن ملاك الفصيل.
سكان يتكاثرون في مساحة ثابتة هي 2 كليو متر مربع تقريبًا، كما لو أن المكان يصغر ويضيق. ونتيجة النمو المستمر للمنازل على حساب ما ينبغي أن يكون شوارع باتت الأزقة مظلمة وضيقة. حتى أنها لا تسمح بمرور السيارات أو بنقل الأثاث الذي يجري إدخاله عبر سطوح المنازل.
المنازل في عين الحلوة تنمو بشكل عمودي، ولهذا يغيب فيها الضوء والهواء. وفي أفلام مهدي قلما نرى شبابيك. ولأجل البحث عن الهواء والضوء نجد أن هناك حياة كاملة تجري فوق السطوح: سهرات عائلية، مباريات كرة قدم للأطفال..
عين الحلوة، باختصار، مكان مات فيه الأمل، ولم يبق أمام أهله، خصوصًا الشباب، غير المخارج الثلاث الراسخة، كلها معًا أو بعضها، ولأجل ذلك تقف الشخصيات عند الحدود القصوى دائمًا.
صور الشباب في المخيم وخارجه
ترينا هذه الأفلام أن السلاح المنتشر بين الأيدي كأنه سجائر تفصيل عادي من الحياة اليومية المحكومة بالإحباط، وبإغلاق المكان على سكانه وحرمانهم من حقوقهم الأساسية، لكننا حين نرى الشباب في الخارج - في أجزاء من "عالم ليس لنا" وفي "زينوس" – نرى الخراب في وجوههم. أناس لا يريدهم أحد. لا المخيم ولا العالم خارجه. ولهذا يغرقون أكثر وأكثر في المخدرات والسرقة والدعارة. وحين يدركون أن كل ما جاؤوا من أجله وهمٌ لا يُطال، يعودون إلى المخيم ثانية ليغرقوا في المخدرات كحلٍّ أخير، وهذا ما ترويه قصة رضا الصالح في فيلم "عودة رجل".
من ناجي العلي إلى مهدي فليفل
ما دمنا نتحدث عن مخيم عين الحلوة فأول من يخطر على بالنا هو الفنان ناجي العلي، ابن المخيم، الذي عمل في رسوماته على تكريس المعاني الرمزية للمخيم بوصفه مكانًا للصمود وتحقيق حلم العودة. لكننا نعاين مسافة هائلة بين مخيم ناجي العلي الذي عرفناه في رسومات الأبيض والأسود، وبين المخيم ذاته الذي تقدمه كاميرا مهدي فليفل بألون البؤس والحيرة والعنف.
نعاين مسافة هائلة بين مخيم ناجي العلي الذي عرفناه في رسومات الأبيض والأسود، وبين المخيم ذاته الذي تقدمه كاميرا مهدي فليفل بألون البؤس والحيرة والعنف
تكمن المسافة في ما كانه الفلسطيني وما صار إليه. في انتزاعه القديم لصوته وهويته وإعلانه الثورة، وبين سقوطه في حصار مجنون تحولت فيه معاملته إلى مجرد هاجس أمني تجب الحيطة منه.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم الهدية.. حجرٌ لكسر هذا الصمت
شخصيات رسومات ناجي العلي فدائيون وأبناء مخيم مهمشون لكنهم يتحلون بالصدق، لا يريدون سوى أن يزول المخيم ليعودوا إلى البلاد التي انتزعوا منها، بينما في أفلام فليفل فأبناء وأحفاد أولئك الفدائيين ضائعون، مدمنون عنيفون، متحزبون بشكل عشائري، ولا يوجد بينهم من لا يحلم بالخروج إلى أي مكان غير هذا السجن اللعين.
هذا بالضبط ما يجعل الصورتين بعيدتين عن بعضهما البعض، وكأنهما من عالمين مختلفين.
مكان أم صندوق رسائل؟
تأتينا هذه الأفلام بقوة عاصفة، وهي ترينا ما يحدث لمكان حالم يتحوّل إلى كابوس، ليس لأن الحلم صعب أو مستحيل، إنما لأن هناك من يريدونه على هذا النحو، أو كما يرى تقرير استراتيجي صادر عن "مركز الزيتونة" أن هناك جهات دولية وإقليمية ومحلية تريد إبقاء المخيم "مساحة لتصفية الحسابات"، و"صندوقًا لتبادل الرسائل"، و"مكانًا تأوي إليه العنصر المطلوبة".
حين يحكي الناس عن أشيائهم العادية تغدو السينما إحدى الطرق الممكنة لإزالة هذا التهميش، وجعل صوت أهل المكان المتألمين عاليًا، الأمر الذي يعيد ترتيب المشهد العبثي، فانتشار السلاح والبطالة والمخدرات ليس خيارات شخصية حرة وواعية، أو هوايات يعشقها أهل المخيم، بل هي نتائج لعوامل عديدة، ولأجل فهم المشهد جيدًا لا بد من إعادة بناء عناصره لنعرف كيف وصلنا إلى هذا الدرك. وهذه الأفلام هي إحدى أشكال ترتيب مشهد المخيم.
حين يحكي الناس عن أشيائهم العادية تغدو السينما إحدى الطرق الممكنة لإزالة التهميش، وجعل صوت أهل المكان المتألمين عاليًا
اقرأ/ي أيضًا: "اصطياد أشباح".. الحياة هي في مكان آخر
الحلّ البسيط هو تحسين الوضع المعيشي، عبر إزالة القوانين التمييزية التي تدفع إلى العنف وفقدان الأمل والتطرف، لكن ذلك بالطبع لا يكون دون تسوية شاملة لوضع الفلسطينيين في لبنان، وهذا أمر يتصل بمعضلة معقدة، هي رؤية الدولة اللبنانية لنفسها، وما دامت الرؤية مبنية على النظام الطائفي سيظل عين الحلوة، وبقية المخيمات بطبيعة الحال، على وضعه المؤلم من إقصاء ونبذ، وستظل تدفع ثمن هذه الهوية الطائفية، بالتوازي مع الثمن الفادح الذي تسبَّب به فشل المشروع الوطني الفلسطيني، وستظل شخصيات المكان هائمة في المتاه.
اقرأ/ي أيضًا: