نحن الآن غارقون في بركات التكنولوجيا، ونعرف عن هذا العالم أكثر مما عرفه أي بشر سابقين، نمتلك كل الوسائل التقنيات لمعرفة ما نريد بكبسة زر، ومن بين أكثر الموضوعات تشويقًا، موضوع رسم الخرائط الجغرافية. وهو علم قائم بذاته ولا شك، احتاج جهودًا تراكمية على مدار قرون، فمن صاحب الفضل في رسم أول خارطة للعالم؟
تعد خرائط الشريف الإدريسي من أدق خرائط العالم القديم. وظل الاعتماد عليها قائمًا لوقت طويل
أول رسم لخارطة العالم وتطورها
لا يمكن التعامل مع خريطة العالم بعيدًا عن السياق التاريخي والجغرافي لمفهوم العالم في مختلف الأزمنة، فالعالم -جغرافيًا- قبل 3000 عام مختلف عما هو معروف عنه الآن، وقد خاض البشر الكثير من الرحلات الاستكشافية لعبور الأراضي المجاورة أو اكتشاف مناطق جدية من اليابسة. وبغض النظر عن الأهداف الدافعة لتلك الاستكشافات إلا أن جهود القائمين عليها وعلى رسم المساحات الجديدة المكتشفة من اليابسة - كل هذه الجهود تضافرت عبر الزمن لتشكل لنا مجتمعة خارطة واحدة متكاملة للعالم الكبير كله. ولعل من أبرز الرحلات الاستكشافية التي كان لها دور في اتساع رقعة خريطة العالم المرسومة، رحلة اكتشاف رأس الرجاء الصالح، ورحلة اكتشاف الأمريكيتين، وأستراليا. وفي ما يأتي تسلسل رسم الخرائط حسب العالم المكتشف في وقت رسمها:
-
الخارطة البابلية
نُقشت أقدم خريطة عالمية معروفة في التاريخ على لوح طيني مسماري في مدينة بابل القديمة في وقت ما حوالي عام 600 قبل الميلاد. وهذا الخارطة موجودة في المتحف البريطاني الآن، ومعروفة بالخريطة البابلية، وتحتوي على دائرتين متحدتي المركز. وتصور الخارطة مدينة بابل وفي قلبها يعبر نهر الفرات، في حين تظهر مدينتا آشور وسوسة المجاورتين كنقطتين دائريتين صغيرتين. والنص المرافق للرسم يعرّف الأراضي المجهولة بوصفها أراض مسكونة بالوحوش الأسطورية. وقد كانت هذه الخريطة رمزًا للقوة البابلية آنذاك.
-
خارطة بطليموس
كان للعالم اليوناني كلوديوس بطليموس، المعروف باسم بطليموس الفضل في إرساء أسس العديد من عناصر الخرائط الجغرافية، وقد أنشأ رسمها قرابة القرن الثاني الميلادي، وهي أول خريطة واقعية، استقى معلوماته لرسمها من المسافرين، وتوصل إلى نظام خطوط الطول والعرض لرسم آلاف الأماكن من بريطانيا إلى آسيا إلى شمال إفريقيا. وهذا يدل على أنه من العلماء المقتنعين بكروية الأرض. وهذا ساعد في التغلب على مشكلة الإسقاط عند رسم الخريطة. وأنتج بطليموس أطلسًا جغرافيًا كان يضم 8 مجلدات تتضمن الخرائط الأولى، ويظهر فيها أكثر من 8000 اسم مكان مختلف، بالإضافة إلى إشارات إلى مناطق نائية مثل أيسلندا وكوريا، وكلها تم رسمها وفقًا لنقاط هندسية لخطوط الطول والعرض. ورغم أن الأطلس والخرائط لم تصل إلينا، إلا أن أخباره وصلت بفضل البيزنطيين الذين اعتمدوا على الإحداثيات التي سجلها بطليموس خلال القرن الـ13 في رسم خرائطهم.
-
خريطة بيوتنجر
خريطة بيوتنجر كانت مفيدة بوصفها دليلاً يكشف شبكة النقل في الإمبراطورية الرومانية، وبالتالي كانت خريطة كبيرة تمتد لأكثر من 6 أمتار ونصف، وعرضها أقل من نصف متر. وتصور مسار أكثر من 60 ألف ميل من الطرق الرومانية الممتدة من أوروبا الغربية إلى الشرق الأوسط. كما يُظهر قسم إضافي أيضًا الهند وسريلانكا وأجزاء أخرى من آسيا. الخريطة بهيئتها الغريبة تشبه دليل السفر الحديث، وتتضمن مواقع أكثر من 500 مدينة، بالإضافة إلى حوالي 3500 نقطة هامة كمحطات الطرق والمعابد والغابات والأنهار. ويشاع إن خريطة بيوتنجر الأصلية قد اكتملت في وقت ما في القرن الـ4 الميلادي تقريبًا، ولكن النسخة الموجودة اليوم هي نسخة من القرن الـ13، أما عن سبب تسميتها فكان ذلك تيمنًا باسم العالم الألماني كونراد بيوتنجر، الذي امتلكها في أوائل القرن الـ6.
-
خارطة الإدريسي
تتعدد الروايات التي تحيل إلى سبب رسم العالم العربي الإدريسي لخريطة العالم آنذاك، ومن بين الروايات أنه لعلمه وتميزه كان مقربًا من ملك صقلية التي هاجر إليها بعد سقوط الأندلس، والملك روجر الثاني طلب منه رسم خريطة للعالم المعروف وكتابًا للجغرافيا. فبدأ في تنفيذ أمر الملك في القرن الـ12 الميلادي. وتصور خرائط الإدريسي إفريقيا وأوروبا وجزءًا من آسيا بطريقة مقلوبة، يكون الشمال في الأسفل والجنوب نحو الأعلى. اعتمد في رسمها على معلومات الرحالة والبحارة المتجولين. كما جُمعت في كتابه معلومات عن المناطق وأخبارها السياسية وأحوالها الثقافية. وتعد من أدق خرائط العالم القديم. وظل الاعتماد عليها قائمًا لوقت طويل. وتسمى خريطة الإدريسي بـ تبولا روجريانا.
والإدريسي من أهم علماء المسلمين في الجغرافيا والملاحة، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الشريف الإدريسي، المغربي النسب، درس في قرطبة وعاش رحالًا في جميع أنحاء الدولة الإسلامية وغيرها؛ من شمال أفريقيا ومنطقة البحر المتوسط في أوروبا وإسبانيا. ويعد كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" من أعظم ما كتب في الجغرافيا ورسم الخرائط في العصور الوسطى.
وقد اكتمل تدوينه عام 1154 م، قبل وقت قصير من وفاة الملك. وتضمن الكتاب نصًا يوضح المساحات الجغرافية ومجموعة من 70 خريطة شملت العالم شمال خط الاستواء. والجدير بالذكر أن أعمال الإدريسي نقلت إلى اللاتينية وكانت مرجعًا جغرافيًا هامًا دُرس في جامعات العالم.
-
خارطة دا مينغ هون يي تو
من أقدم خرائط العالم القديم خريطة دا مينغ هون يي تو الصينية، وهي من أهم خرائط الشرق الأقصى عام 1389، ويطلق عليها "خريطة إمبراطورية مينغ"، ما يميزها أنها مرسومة على الحرير، وتوضح برسومها القارة الأوراسية بأكملها من اليابان إلى المحيط الأطلسي. مع وجود علامات تفصيلية لسلاسل الجبال والأنهار والمراكز الإدارية. ولكنها تعرض كتل اليابسة المرسومة بحجم مشوه، فعلى سبيل المثال تبدو المساحة الرئيسية للصين وكأنها كتلة متراصة في منتصف الخريطة، في حين أن اليابان وكوريا تبدوان أكبر بكثير من الهند. وفي المقابل صوّرت القارة الأفريقية على أنها شبه جزيرة صغيرة نسبيًا مع ما يبدو أنه بحيرة عملاقة في وسطها. ورغم ذلك تعد خريطة دا مينغ هون يي تو أول خريطة تظهر أفريقيا مع طرف جنوبي محاطٍ بالمياه ويمكن الإبحار حوله.
-
خارطة كانتينو
كانت منطقة كانتينو بلانيسفير قديمًا مركزًا للخرائط المسروقة. وفي عام 1502، كلف دوق إيطالي يُدعى ألبرتو كانتينو، أحد الوكلاء بالحصول على خريطة للاكتشافات الجغرافية لمملكة البرتغال (متضمنة المستعمرات البرتغالية)، التي اشتهرت بحراسة موقع الأراضي الجديدة التي عثر عليها مستكشفوها في رحلاتهم حول رأس الرجاء الصالح. ولما نجح الوكيل في مهمته، صارت الخريطة التي هربّها خارج البرتغال مشهورة منذ ذلك الحين باسم الدوق كانتينو.
تنبع أهمية هذه الخارطة من كونها لا تصور أفريقيا والهند وأوروبا بتفاصيل غير مسبوقة فحسب، بل إنها تعد واحدة من أقدم الخرائط المعروفة التي توضح الخطوط الساحلية لمناطق "العالم الجديد" التابعة للبرتغال في أمريكا الجنوبية. إلى الشمال من البرازيل، كما تتضمن الخريطة أيضًا مجموعة صغيرة من الكتل الأرضية التي تبدو أنها كوبا وهيسبانيولا وكذلك جزء من الساحل الشرقي الأمريكي.
اشترت مكتبة الكونغرس النسخة الوحيدة الباقية من خريطة العالم فالدسيمولر مقابل 10 ملايين دولار.
-
خريطة فالدسيمولر
مارتن فالدسيمولر هو رسام خرائط ألماني، ولم يشتهر اسمه كثيرًا رغم أن الفضل في تسمية القارتين الأمريكيتين يعود له. وفي عام 1507، أنتج أول خريطة في التاريخ لتصوير العالم الجديد ككتلة أرضية منفصلة مع المحيط الهادئ على جانبه الغربي. وقد سمى الأراضي المكتشفة بأميركا كاعتراف بالفضل للملاح الإيطالي أميريغو فسبوتشي، الذي كان أول من طرح نظرية القارة المنفصلة، ومنذ ذلك الحين، أُطلق على خريطة فالدسيمولر اسم "شهادة ميلاد أمريكا"، وفي عام 2003، اشترت مكتبة الكونغرس النسخة الوحيدة الباقية مقابل 10 ملايين دولار. فعُدت أغلى خريطة للعالم على الإطلاق.
-
خريطة إسقاط مركاتور
صمم رسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس مركاتور نمط الخريطة لأول مرة في عام 1569 كوسيلة لعرض الأرض الكروية على سطح مسطح مستطيل. يعني ذلك أنه رسم خريطة للعالم مع خطوط عرض متوازية لكن المسافة بينها تزداد كلما ابتعدت عن خط الاستواء. وتنبع أهمية هذه الخاريطة لما ساهمت فيه من تسهيل الإبحار على المستكشفين والبحارة، الذين يمكنهم استخدامها للإبحار في خطوط مستقيمة مع اتجاه بوصلة ثابت، ولكن هذه الخريطة واجهت الانتقاد لأنها تظهر الكتل الأرضية الاستوائية مثل أفريقيا وأمريكا الجنوبية مضغوطة بشدة. في حين تبدو جرينلاند والمناطق القطبية الأخرى أكبر بكثير مما هي عليه في الواقع، وكان سبب الانتقاد أن الغالب في تشويه الكتل على هذا النحو كان أمرًا مقصودًا، لإعطاء إيحاء وهمي بأن الأراضي التي لا يحكمها الأوروبيون أصغر حجمًا.
ومع ذلك، ظل إسقاط مركاتور ثابتًا في الأطالس حتى القرن الـ20، فاستبدال منذ ذلك الحين إلى حد كبير بخرائط أكثر حداثة بيضاوية الشكل مثل إسقاطات روبنسون ووينكل تريبل.
لاحقًا مع تطور أدوات الملاحة والرصد وظهور الأقمار الاصطناعية، رسمت العديد من الخرائط، وصورت اليابسة بواسطة الطائرات والأقمار الصناعية فصارت الخرائط أكثر دقة مما مضى.
وهكذا يتضح أن خارطة العالم الأولى مرت بالعديد من المراحل، فالعالم لم يكن مكشوفًا لأهله كما هو الحال اليوم، بل كلما اكتُشف جزء من الأرض ورسمه الرحالة تشكل عالم جديد بخارطة جديدة، حتى اكتمل اكتشاف الأراضي كلها مع نهاية القرن الـ17 تقريبًا.