انتقال أو انتكاس في الشعارات التي ثار بها المتظاهرون من جموع الشعوب العربية المطالبة بنجدة القطاع المحاصر، فالمطّلع على تدرّج الأثر النفسي للحرب على غزة منذ بدايتها إلى اليوم يلحظ تراجعًا في الشعارات مع دخول الحرب شهرَها الخامس، من النداء بـ"فتح الحدود" في الأيام الأولى للحرب، إلى الاكتفاء بالدعاء والنكوص إلى الأمر الواقع، ما يذكرنا بمقولة ديستويفسكي في الجريمة والعقاب: "الإنسان حقير، فهو يعتاد كل شيء".
لكن كيف يمكن لعلم النفس أن يقرأ "الاعتياد" بعيدًا عن قراءة ديستويفسكي الانفعالية وحكمه التقييمي على الإنسان بالحقارة المطلقة؟ هذا ما يرمي إليه هذا المقال، إذ يحلّل سبب النكوص في الشعارات والتراجع في نفَس التّصعيد الشعبيّ وفقَ نظريتين مهمتين في سياق الدرس النفسي، نظرية فرانكل في صناعة المعنى، ونظرية دارلي ولاتاني المعروفة بـ "متلازمة جينوفيز" أو "متلازمة المتفرّج".
صناعة المعنى لتقبل المشهد: بين الحكمة الإلهية وإرادة السلطة
في كتابه "العلاج بالمعنى"، يقول فيكتور فرانكل إن الإنسان يضع معنى ما لكل ما يختبره أو يشاهده من ألم ومعاناة ليستطيع التقبل والمضيّ في حياته. هذا التقبل الذي يتحدث عنه فرانكل يُغلّف عادة بمبررات خارج طاقة الإنسان تجرّده تمامًا من المسؤولية عن المعاناة، سواء معاناته أو معاناة مَن يُحبّ.
إن المتابع لحركيّة المشهد التعاطفي معَ غزّة يلحظ أنّها سارت مع الأيام الأولى للحرب في مسارين: مسار صامت من البداية، ناكص إلى الأرض، لا يرى أيّ أثر لحديثه أو اعتراضه، ومسار متحمّس رافض يظنّ أن بإمكانه أن يصنع شيئًا على الأرض إذا ما تعاطف أو قاطعَ المنتجات أو طالب حكوماته بفتح الحدود ونصرة أهالي غزة.
تعكس التفاعلات مع الوضع في غزة مسارين رئيسيين: الأول صامت وغير فعّال، بينما الثاني متحمّس ومتفائل بالتأثير الإيجابي عبر التضامن والتحركات السياسية
وفي الوقت الذي لا يرى فيه أصحاب المسار الصامت أيّ معنى لخروجهم في الشوارع وإعلان غضبهم، فإنهم يصوغون معنى مناسبًا لصمتهم يُريحُهم ويزيل عن كاهلهم المسؤولية، هذا المعنى يُنسَب مباشرة إلى ما هو غير بشري، فتصير مشاهد القتل والتدمير والتهجير والتجويع "حكمة إلهية" خُصَّت بها هذه الجماعة من البشر. "الحكمة الإلهية" تغسل الضمير الصامت، بل وتريحُه في حال أتبعها بعبارات من مثل: الشهيد في الجنة، ليتنا شهداء، أهل الشهيد مشفوع لهم، الله يبتلي المؤمن ليختبر صبره وإنهم مبتلون، لو أراد الله وقف الحرب لأوقفها لكنّه يريد الواقع هكذا لحكمة نجهلها.
بعيدًا عن مناقشة صحة هذه العبارات دينيًا، لكنّها على المستوى النفسي ليست سوى عبارات مُساعِدَة على الاستسلام وإزاحة نداء الضمير المُلِحّ بضرورة النصرة وفعل شيء ما، وما دام الأمر كذلك، مقدّرًا بالحكمة الإلهية، فإن النفس ستستطيع بسهولة أن تكمل حياتها الطبيعية من دون منغصات.
أما المسار الثاني الّذي غضب ونزل إلى الشوارع من البداية وقدّم كل ما يستطيعه لنصرة المظلومين في القطاع، فسرعان ما نكَصَ وتراجَعَ مع استمرار الحرب وإيقانه بأن دورَه لم يكن بذلك التأثير، ثمّ صار معناه الذي يبرر نكوصه بعد الحماس مجرد رضوخ لإرادة الواقع والسّلطة بشتّى تمثّلاتها، ففي بداية الحرب نزلت جموع الشعوب العربية إلى الشوارع تطالب حكوماتها بفعل شيء ما أمام فظاعة المشهد الآتي من غزة، كان قبول الشعوب لهذه المجازر عصيًّا، حتى طالبوا بفتح الحدود للذهاب إلى غزة ومساندة المستضعفين، بل ومنهم من طالب بتسليح المقاومة، كان دم الشعوب فوارًا أمام أشلاء الأطفال وصيحات الثكالى، أثارت مشاهد المجازر غضبًا عظيمًا ورغبةً في الثأر تُطلَب من الحكومات كلّ يوم. لكن ثائرة الغضب الشعبي هذه لم تُقابل بأي استجابة، وفوق ذلك قُمِعَت فضُرِبَ المحتجّون في غير مكان واعتُقِلوا وفُضّت مظاهراتهم وألقيت عليهم قنابل الغاز. كلّ هذا خلق مبرّرًا جديدًا للفتور واعتياد المشهد، إرادة السلطة.
وبين إرادة الحكمة الإلهية وإرادة السلطة، صمت الشارع العربي تمامًا بعد دخول الحرب شهرَها الخامس!
لكن لا يمكن لهذا النكوص النّفسيّ أن يمرّ على هذه الشعوب بسلام، فقد تولّدت لدى من اندمج منذ البداية في محاولة تقديم نصرة حقيقية لأهل غزة مشاعر لم تكن موجودة بهذا الوضوح قبل الحرب، فقراءات ما يكتبه الناس على مواقع التواصل الاجتماعي الآن، تبيّن أنّهم يشعرون بالخزي والذلّ وانعدام القيمة الآدمية في ظلّ عجزهم التامّ أمام مشاهد قصف مدارس الإيواء التي يملؤها الأطفال النازحون، وضرب المستشفيات التي تؤوي المصابين، ونهش الكلاب لجثامين الشهداء، وصور المقابر الجماعية في كل مكان حتى على الأرصفة.
هذه المشاهد التي يصحبها عجز عربي عن إيقاف سيل الدم خلقت لدى المتعاطفين اكتئابا من نوع خاص جعل العالم مسخًا في أذهانهم.
وقد قدّم المركز العربي للأبحاث استطلاع رأي عام بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة أوضح أنّ نسبة 97 % من المشاركين يعيشون حالة من الضغط النفسي.
هذا الضغط النّفسي يفسّر أسباب انخفاض الصوت بمطالبه الثائرة من بداية الحرب إلى الآن، إمّا بسبب الشعور بالخذلان والعجز والتماشي مع هذه المشاعر -التي عبّر عنها عالم النفس بافلوف بـ"قانون الكفّ"، وهو أنّ المثير الذي لا يلقى تعزيزًا لفترة من الزمن يبدأ بالضعف والتراجع حتى يختفي نهائيًّا-، وإمّا بسبب تقبّل المشهد ومقاومة الخذلان، لمحاولة عيش حياة طبيعية مفصولة عن وجع الناس في غزة، واعتبار الألم مجرّد معاناة رقمية من الممكن التغاضي عنها بتجاهل الأخبار.
أمّا عن تقبّل ألم الآخر الذي تدرّج منذ بداية الحرب من مرحلة الاستنكار والغضب إلى مرحلة التسليم، فمردّه إلى قَبول الألم، الذي يعني أن تعرف أنّ ما لا تستطيع تغييره يمكنك المضي معه بالتكيف مع وجوده، واستعادة توازنك، لاعتقادك التام بعدم القدرة على التصدي له، أو التعامل معه، وهذا يفسّر تقبّل المشهد واعتياده دون محاولات صارمة لتغييره، كما يفسّر سبب عزوف كثير عن المناداة والنشر لمناهضة الأفعال الإجرامية التي تجري في أراضي غزة.
متلازمة جينوفيز أو متلازمة المتفرّج
قدّم العالمان النفسيان جون دارلي وبيب لاتاني دراسةً نفسيةً تُعنى بشعور المرء بمسؤولية رفع ضررٍ يقع على إنسان أمامه، إثْر حادثة مقتل إحدى السيدات أمام 38 متفرج دون تدخّل حقيقي، ما أثار سؤال: لماذا قد تنأى جموع بشرية عن منع جريمة واقعة أمامها؟ وخلصت النتائج إلى أنّ الإنسان قد يسهم في التدخّل الإيجابي بنسبة 85% في حال كان وحيدًا أمام الحدث، بينما تتناقص هذه النسبة لحد 60 % إذا كان الفرد يشاهد الحدث مع العديد من البشر، بمعنى أنّ الإنسان يرمي مسؤولية التدخل على الآخرين في حال لم يكن الشاهد الوحيد، أو يتوقّع أنّ أحدًا غيره سيتدخّل أو تدخّل بالفعل بطريقة لا يراها هو، وقد سميّت هذه الظاهرة "جينوفيز" على اسم أول ضحية موثّقة تموت في هذه الظاهرة، كما يرد في كتاب "قصة علم النفس".
لو سحبنا حالة جينوفيز إلى واقع الحرب الحالية، سنجد أنّ الشعوب العربية تعتقد أنّ غيرها أحق بنصرة غزة، أو أنّ شعوبًا أخرى أقرب وأمكن وأقوى، إنّهم يزيحون المسؤولية عن كواهلهم، فالمسؤولية الجماعية انتشرت على هذه الشعوب ما خفف حِملها على كلٍ منهم، فيقفون وِقفة المتفرج دون حراك، معوّلين أنّ أحدًا ما غيرهم سوف يتدخّل ليحلّ الأزمة.
ومع الأخذ بالحسبان أضرار التدخل في هذه الحرب، والعائد السياسي والحربي القاسي لأيّ دولة، ينمو شعور التخاذل خوفًا من تعميم جرح غزة على شعب آخر، ولسان الحال يقول: ما يواجهه الغزييون لا نودّ أن عيشه. ومن ثَم تُتوّج حالة تراجيدية من التفرّج ومشاهدة الإبادة دون تدخّل، خذلانًا، واكتئابًا، وتقبّلا، وخوفًا من المصير ذاته.