مع كل حديثٍ عن مآلات الحرب المأساوية التي تدور رحاها في قطاع غزة، يجد "اليوم التالي" دومًا فرصته للتصدر. ولم تنتهِ حتى الآن احتمالات ملامح ذلك اليوم الذي يستيقظ فيه الغزّيون على احتفالات انتهاء الحرب، إن بقي هناك من سيحتفل على أية حال. إذ بدأت أحاديث اليوم التالي في أروقة البيت الأبيض في قفزة عبر الزمن تفترض أن "إسرائيل" نجحت في تحقيق أهدافها في القطاع وها هي تستعدّ للخطوة التالية، وهو ما زال مستبعدًا حتى بعد مرور 84 يومًا من العدوان.
في المقابل أبدت السلطة الفلسطينية استعدادها ورغبتها بالعودة إلى القطاع الذي خرجت منه منذ ما يزيد عن 16 عامًا وأربعة حروب دامية، ولم يشاركها أحدٌ من الأطراف تلك الغبطة تجاه العودة، بما في ذلك نتنياهو نفسه. أما بالنسبة لحركة حماس، فيتراوح موضعها على لائحة احتمالات اليوم التالي طبقًا لمن يحصيها؛ الإسرائيليون يقولون لا مكان لحماس، واسماعيل هنية يقول إن المستقبل من دونها في غزة وهمٌ وسراب.
لم تتوقف احتمالات ذلك اليوم عند حيز الجغرافيا الفلسطينية. ورغم انكفاء الوزراء والقادة العرب عن الخوض في استحقاقات اليوم التالي وإعطاء الأولوية لوقف الحرب وإدخال المساعدات، إلا أن ذلك لم يلغِ أنَّ العبارةَ تطرح في الاجتماعات الرسمية، وتتكرَّر في الردهات الدبلوماسية. تجلى ذلك في العرض المصري المُسرّب أخيرًا لوقف إطلاق النار على ثلاثة مراحل، حيث يتم تبادل جزئي للأسرى، ثم إنشاء حكومة تكنوقراط في الأراضي الفلسطينية برعاية مصرية، ثم انتخابات يليها تبادل من تبقى من الأسرى.
بناءً على أحدث تقديرات الأمم المتحدة، فإن ما يقرب من 40 ألف مبنى، أو حوالي 18 بالمئة من جميع المباني التي كانت قائمة قبل الحرب، تعرضت لأضرار أو دُمّرت بالكامل في القطاع
إذن نحن أمام طيف واسع من احتمالات "اليوم التالي"، كلّ منها يلغي جميع الاحتمالات الأخرى. أيٌّ من الأطراف لم يتحدث حتى الآن عن خطته لما سيفعله في ذلك اليوم، سوى التأكيد على استمرارية بقائه وفرض شروطه على 360 كيلومتر مربع جعلت قوى العالم تتصارع على نيل نصيبها منها.
بالعودة إلى واقع الـ 360 كيلومترًا مربعًا تلك، التي فرَّ 85 بالمئة من سكّانها من منازلهم إلى أماكن أخرى بالكاد صالحة للعيش. فإنه وبناءً على أحدث تقديرات الأمم المتحدة، ما يقرب من 40 ألف مبنى، أو حوالي 18 بالمئة من جميع المباني التي كانت قائمة قبل الحرب، تعرضت لأضرار أو دُمّرت بالكامل في القطاع، بينما يبلغ الرقم 60 بالمئة وفقًا لإحصاءات حماس، وهو رقمٌ هائلٌ أينما كانت الحقيقة بين هذين التقديرين.
وفي ذلك تجدر الإشارة إلى أن هذه التقديرات تعتمد على صور الأقمار الصناعية والإبلاغات الميدانية؛ ما يعني أنها تبقى أقل بكثير من حجم الدمار الفعلي، ذلك لأنها لا تظهر سوى الأضرار التي لحقت بالمبنى الظاهرة من الأعلى. على سبيل المثال، يمكن للدبابات ألّا تُبقي جدارًا سليمًا في مبنى فيما يبقى سطحه كما هو، فيبدو سليمًا ويُستثنى من تلك التقديرات.
ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، فإن 26 مستشفى من أصل 35 مستشفى في مختلف أنحاء غزة لم تعد تعمل بسبب الأضرار التي لحقت بها أثناء الهجوم العسكري الإسرائيلي، أو بسبب انقطاع التيار الكهربائي الذي ما زال مقطوعًا، ولا أمل من عودته قريبًا، حتى الآن.
ولا تقل عن ذلك مأساة القطّاع التعليمي، إذ تظهر أرقام الأمم المتحدة أنه بحلول منتصف كانون الأول/ديسمبر الجاري، تضرر 352 مبنى مدرسيًا، أي أكثر من 70 بالمئة من البنية التحتية التعليمية في القطاع، مع تحول العديد من تلك المدارس التي لا تزال قائمة إلى ملاجئ لأناس لم يعد لديهم بيوتًا يعودوا إليها وإن جاء "اليوم التالي". أي أنه، وإن سمحت صحة الأطفال الجسدية والنفسية بالعودة إلى مقاعد الدراسة، سيتعيّن عليهم الانتظار طويلًا قبل توفّرها.
أما بالنسبة للمستقبل الغذائي لغزة، يجب التنويه إلى أن طبيعة الأراضي الزراعية في القسم الشمالي من القطاع كانت توفر حوالي 45 بالمئة من الاحتياجات الغذائية.
اليوم، تظهر صور الأقمار الصناعية تحول لون تلك الأراضي من الأخضر إلى الرمادي أو الأصفر، مع وجود علامات واضحة على استخدام الجرافات من قِبَل قوات الاحتلال، ما جعل ثلث تلك الأراضي "شبه مستحيلة" الزراعة جرّاء تخريبها كيميائيًا بسقوط المقذوفات عليها وفيزيائيًا بمرور المركبات العسكرية الثقيلة فوقها وبيولوجيا بفعل التجريف المتعمّد الرامي إلى إزالة طبقة التربة السطحية وما تحمله من مغذيات أساسية لها.
وإذا أراد الفلسطينيون في "اليوم التالي" فحص تلك التربة قبل إعادة استزراعها، فلن يستطيعوا ببساطة، لأن القصف طاول معظم المختبرات التابعة لوزارة الزراعة أو للجامعات العامة والخاصة، بينما قفزت أبنية الجامعة الإسلامية في غزة، أكبر جامعات القطّاع، ورموزها وأكاديمييها إلى أعالي قائمة الأهداف الإسرائيلية. وعلى هامش العبث بالبنية التحتية، تفاخر الاحتلال ومتحدثيه بمقطع تفخيخ مبنى قصر العدل وتحويله إلى ركام في غضون ثوانٍ، ولم تكن تلك حالة فريدة لاختفاء بناءٍ عام.
نحن اليوم أمام أحياء سكنية كانت لا ترَى النور لاكتظاظها تحوّلت إلى ساحات مشمسة مترامية الأطراف، في منطقة نُزعت عنها كافة أشكال الحياتين الحضرية والريفية، ومعها الأدوات اللازمة لبناء أيّهما. ربما يأتي اليوم التالي بملامح تخالف كل ما رُسم له حتى الآن، وسينجح أحد الأطراف في إحكام سيطرته والخروج منتصرًا سياسيًا من هذه الحرب. ربما حينها يطوي العالم صفحة غزة ويذهب كلٌّ بحاله، لكن بالنسبة لأُناس غزة، لن يكون سوى بداية مأساة جديدة، ربما أقل وطأة، لكن أكثر ديمومة وتعقيدًا.