31-يناير-2024
شارع في القاهرة

شارع في القاهرة

1

"حملة منظمة على مواقع التواصل الإعلامي وفي وسائل الإعلام للتحريض ضد السوريين واللاجئين والمطالبة بترحيلهم".

لو أنك قرأت العنوان هكذا مجردًا ستعتقد أن هذه الحملة تحدث في دولة غربية تقودها حكومة يمينية معادية للمهاجرين ومجتمع رافض لاستضافة اللاجئين، لكن الواقع أن فصول هذه الحملة دارت في الأرض التي كانت ملجأ للخائفين والمُطاردين ومستقرًا للعابرين والسائحين، والبلد الذي اختلطت فوق أرضه الأعراق والدماء والألوان، حتى أصبح من الصعب تحديد أهله الأصليين.. في مصر.

فجأة ودون سياق، ظهرت هذه الحملة من الفراغ لتطالب بترحيل اللاجئين والمهاجرين عمومًا، والسوريين خصوصًا. تطالبهم بالعودة إلى سوريا بعد هدوء الأوضاع نسبيًا فيها وانتفاء مبررات وجودهم هنا. تتهمهم بالتسبب في الأزمة الاقتصادية، ومزاحمة المواطنين في أرزاقهم، والإتجار في المخدرات، وبيع الأغذية الفاسدة، وإهانة مصر قيادة وشعبًا، وتُستخدم لإثبات ذلك فيديوهات وصور غالبيتها الساحقة مفبرك بشكل واضح وبدائي، وحالات أخرى فردية لمخالفات تورط فيها سوريون وأجانب.

تدور رحى هذا الحملة على حسابات شخصية لصحفيين يعملون في وسائل إعلام حكومية، وتفرد للحديث عنها مساحات كبيرة في برامج يقدمها مذيعون محسوبون على السلطة، وبعدها يصرح رئيس الوزراء شخصيًا بأنه أعطى توجيهات لعدد من الوزراء بالبدء في حصر أعداد اللاجئين والمهاجرين في مصر وتوثيق الكلفة الفعلية نظير تلقيهم الخدمات المختلفة!

بينما تقدّر المنظمة الدولية للهجرة عدد المهاجرين في مصر بـ9 ملايين، تشير أرقام مفوضية اللاجئين إلى وجود 473 ألفًا فقط من اللاجئين وطالبي اللجوء في مصر، بينهم 153 ألف سوري فقط

لا يحتاج الأمر لقدر كبير من الذكاء حتى يتأكد أي متابع من أين جاءت هذه الحملة، وهل هي طبيعية وناتجة عن غضب شعبي حقيقي، أم مُفتعلة وموجهة لهدف لا يعرفه إلا من أطلقها، لكنها في كل الأحوال تثير قلقًا كبيرًا بشأن ما يمكن أن يحدث بعدها، وما وقع قبل يوم واحد من نهاية العام 2005 يجعلنا نتعامل بحذر وقلق بالغ مع ما نراه الآن، تتشابه البدايات بشدة.

لكن يجب ألا تتشابه النهايات.

2

في حديقة عامة بميدان مصطفى محمود الذي يتوسط حي المهندسين الراقي، اعتصم قرابة الثلاثة آلاف لاجئ سوداني بالقرب من مكاتب مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، احتجاجًا على المعاملة السيئة التي يتعرضون لها منذ وصولهم إلى مصر هربًا من جحيم الحرب.

في الساعات الأولى من صباح 30 كانون الأول/ديسمبر 2005، دخل ألفان من قوات مكافحة الشغب التابعة للشرطة المصرية مقر الاعتصام وفضوه بالقوة مخلفين 25 قتيلًا وعشرات الجرحى بينهم نساء وأطفال، وقالت البيانات الرسمية وقتها إن الوفيات والإصابات حدثت بسبب التدافع أثناء الفض، وإن القوات المهاجمة لم تكن تملك أسلحة نارية.

لكن هذا فقط كان مشهد النهاية، وسبقه على مدى شهور تحريض دائم على اللاجئين السودانيين ومطالبات بترحيلهم لانتهاء الحرب الأهلية في بلادهم وانتفاء مبررات بقائهم. الاعتصام نفسه كان من دوافعه بحسب تصريحات قادته سوء معاملتهم والتحريض ضدهم من دوائر رسمية وشعبية في مصر، ومطالبة مفوضية اللاجئين بنقلهم إلى دولة أخرى لعدم رغبتهم في البقاء.

خلال الاعتصام امتلأت وسائل الإعلام بالتحريض ضد المعتصمين، زعمت أنهم يشربون الخمر في الشوارع ويمارسون الجنس في الخيام التي نصبوها في الشارع، المستوى الرسمي أيضًا لعب على هذا الوتر الذي يعرفون جيدًا حساسيته عند المصريين، حتى أن أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري وقتها قال: "في الوقت الذي يكن فيه الشعب المصري كل مشاعر الاخوة والود بالنسبة للأشقاء السودانيين.. فإن تقاليد المجتمع المصري يتعذر عليها تقبل استمرار مثل هذا الوضع أكثر من ذلك".

قال أحمد أبو الغيط هذه التصريحات خلال لقائه رئيس الوزراء السوداني السابق الصادق المهدي يوم 23 كانون الأول/ديسمبر، وبعدها بأقل من أسبوع وقعت الكارثة.

أحمد أبو الغيط هو الأمين العام لجامعة الدول العربية الآن!

3

يُطلق مصطلح "لاجئ" في مصر على أي أجنبي يقيم على أرضها، من أجانب العالم الثالث طبعًا.

تزامنًا مع فض اعتصام السودانيين قالت مفوضية اللاجئين إنه من بين أكثر من مليون سوداني يعيشون في مصر 26 ألفًا منهم فقط مسجلون كلاجئين، والآن بينما تقدّر المنظمة الدولية للهجرة عدد المهاجرين في مصر بـ9 ملايين، تشير أرقام مفوضية اللاجئين إلى وجود 473 ألفًا فقط من اللاجئين وطالبي اللجوء في مصر، بينهم 153 ألف سوري فقط.

يعني ذلك أن أكثر من ثمانية ملايين ونصف من الأجانب المقيمين ليسوا لاجئين، بل مهاجرين يعيشون ويعملون ويدفعون الضرائب، تماما كما يفعل أكثر من 11 مليون مصري بالخارج، دون أن تعتبرهم البلاد التي يعيشون فيها لاجئين!

الاستثمارات السورية المسجلة في مصر تبلغ 880 مليون دولار، وغالبية السوريين يعيشون فيها مع أسرهم، ما يعني أنهم لا يحّولون مدخراتهم إلى الخارج، وحتى لو أرادوا فهناك قوانين مصرية صارمة تمنع ذلك.

استضافة اللاجئين والمهاجرين في مصر ليست فقط واجبًا أخلاقيًا يفرضه كوننا جزءًا من هذا العالم، ومسؤوليتنا عن إغاثة المظلوم وطمأنة الخائف، بل هي أيضًا نقطة قوة اقتصادية، وفرصة حقيقية لدعم التنوع والمنافسة

اللاجئون في مصر لا يحصلون على أي أموال من الدولة، بل من مفوضية اللاجئين، وهناك مليارات عديدة حصلت عليها مصر على مدى عقود لمساعداتها على مواجهة الهجرة غير الشرعية واستضافة اللاجئين، آخرها دعوة الأمم المتحدة لتوفير 114 مليون دولار لمصر لدعم مصر في استضافة اللاجئين السودانيين الفارين من الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

يعني ذلك أن استضافة اللاجئين والمهاجرين في مصر ليست فقط واجبًا أخلاقيًا يفرضه كوننا جزءًا من هذا العالم، ومسؤوليتنا عن إغاثة المظلوم وطمأنة الخائف، بل هو أيضًا نقطة قوة اقتصادية، وفرصة حقيقية لدعم التنوع والمنافسة.

4

هذه الحملات هي الاستثناء وليست القاعدة.

أسفل المنشورات التحريضية ضد السوريين والمهاجرين آلاف التعليقات لمصريين يرفضونها بعنف، ويشككون في أهدافها ويرحبون بتواجدهم جزءًا من جسد المجتمع، ومئات الحكايات من السوريين عن لطف المصريين الذين يؤثرونهم على أنفسهم أحيانًا.

يبحث المصريون عن المطاعم والملابس والمنتجات السورية. يتحدث متسولون مصريون في الشارع باللهجة السورية ويدّعون أنهم فارون من الحرب ويريدون شراء الطعام، لأنهم يعلمون أن فقراء المصريين قبل أغنيائهم سيسارعون بالمساعدة.

لا تعزل مصر الرسمية اللاجئين في مخيمات ولا تحدد إقامتهم، بل يذوبون في المجتمع ويسري عليهم ما يسري على أهل الدار، يصفهم رئيس الدولة بـ"الضيوف" الواجب إكرامهم، وتُفتح أبواب مصر لأشقائها كلما اقتضت الضرورة ذلك، ما لا تفعله دول عربية أخرى أغنى وأولى.

هذه الحملات الكريهة تظهر في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية ومواسم الهروب إلى الأمام، تحركها أصابع مجهولة معلومة، ويشترك فيها بعض المتأثرين بكثافة دعايتها السلبية وأدلتها المختلقة، أو المتضررين فعلا من منافسة المهاجرين.

المهم ألا تنزلق الأمور إلى ما هو أبعد وألا تتحول الهاشتاجات والمنشورات إلى قرارات وإجراءات تصل بنا إلى مشهد قريب مما شهدناه في 2005، وما زلنا نحاول التطهر من عاره إلى الآن.